أحناف العصر الجديد
فهد عامر الأحمدي
هناك فرق بين الإيمان بوجود إله (خالق للكون) وبين الانتساب لدين يُعبد من خلاله (الخالق والمدبر للكون)..
فالبشر يملكون أكثر من ستة آلاف ديانة تعترف جميعها بوجود خالق للكون ومدبر للحياة.. بمعنى أنهم يشتركون في فكرة وجود "الخالق" ولكنهم لا يعترفون ب5999 ديانة يتبناها غيرهم من البشر.
حتى في الجاهلية كان هناك من يعترف بوجود الخالق ويؤمن بوحدانيته ويرفض عبادة الأصنام.. كانت تدعى الحنيفية (ملة إبراهيم عليه السلام) التي تؤمن بوجود إله (فرد صمد) دون أن تملك ديانة أو طقوسا تعبده من خلالها (ولهذا دعيت ملة وليست دينا).
وكان من أتباعها ورقة ابن نوفل، وزيد بن عمرو، وأمية بن الصلت، وقس بن ساعدة، وعمرو بن عبسة، وعبدالمطلب بن هاشم - ناهيك عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. وحتى حين جهر النبي بدعوته لم يختلف معه بقية العرب في وجود الخالق عز وجل، بل في تفاصيل الدين الجديد بدليل "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ خلقهن العزيز العليم".
إذاً؛ قد يكون هناك من يؤمن بوجود خالق للكون، ولكنه في نفس الوقت لا يؤمن بأي ديانة على وجهة الأرض.. وشخص كهذا لا يجب أن نخلط بينه وبين (الملحد) الذي لا يؤمن بوجود خالق للكون ويعتقد أن الكون ظهر كصدفة اعتباطية.. كما لا يجب الاستهانة به كونه في الغالب شخص ذكي ومفكر عميق أدرك بنفسه -وبكثرة تأمله وتفكيره- أن نظام الكون وتعقيدات الحياة لا يمكن أن تظهر بلا مُسبب وخالق أول.. وشخص كهذا يدعى "ربوبي" كونه يؤمن بالله -كما نؤمن به نحن- ولكنه يختلف في اعتقاده بأن الأديان اختراع بشري بدليل كثرتها وتنافرها وخزعبلاتها وصراعاتها الدائمة.
والحقيقة هي أن أوروبا أدركت متأخرة مفهوم الربوبية مقارنة بالعرب.. فبالإضافة إلى أن فكرة الربوبية كانت موجودة في الجاهلية -واستمرت لدى البعض بعد ظهور الإسلام- لم تبدأ في أوروبا إلا في القرن السابع عشر ودعيت Deism.
.. وكان معظم الربوبيين الأوربيين علماء ومفكرون تركوا المسيحية بسبب الخرافات المتعلقة بها (خصوصا ادعاء إلوهية المسيح وفكرة الثالوث المقدس) ولكنهم في نفس الوقت لم ينكروا وجود خالق عظيم ومهندس ذكي بنى هذا الكون.
ومن أشهر الربوبيين في الغرب؛ الرئيس الأميركي الثالث جيفرسون، والفيلسوف الفرنسي فولتير، والعالم الإنجليزي نيوتن، والعالم الألماني آينشتاين الذي كان يحتقر الديانة اليهودية -رغم ولادته لعائلة يهودية- ورفض عرضاً بترؤس أول حكومة ظهرت في إسرائيل.
أما أشهر الربوبيين في تاريخنا العربي فهو أبو العلاء المعري الذي كانت له أبيات كثيرة في مناجاة وتوحيد الخالق عز وجل، وفي نفس الوقت أبيات أخرى تنتقد الأديان والمذاهب ودورها في بؤس البشر وصراعاتهم الدائمة.
وهناك أيضا أبو بكر الرازي الذي قال أشياءً كثيرةً في هذا المعنى من بينها: "إن حكمة الحكيم ورحمة الرحيم جعلت لعباده معرفة منافعهم ومضارهم قبل ولادتهم ولكنهم جعلوا لأنفسهم أديانا ومذاهبا فضربوا بعضهم بالسيف حتى عمّ البلاء".
أيضا هناك عمر الخيام الذي نظم آلاف الرباعيات الشعرية التي تتراوح بين "لا تشغل البال بماض الزمان ولا بآتي العيش قبل الأوان" وبين قوله "إنما يشفع لي أنني قد عشت لا أشرك في وحدتك"!!.
.. بقي أن أشير إلى أن مقال اليوم لمجرد العلم بالشيء "ومَن يَبتغ غيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فلَن يُقبَلَ مِنْهُ".