قديمًا كانت هناك تصنيفات للشباب منها مصطلح «عربجي» (1)، و«خكري» (2).
فالأول أشبه ما يكون بصعاليك العرب، فهم شباب يتصفون بالخشونة، والاعتماد على النفس، ولهم خصائص تدل على العنجهية كحلق شعر الرأس بالموس، وطي الأكمام إلى العضد، ووضع الشماغ مطويًّا على الكتف، والألفاظ العامية الحوشية بنبرات صوت مضخمة، وشعارهم قول عمرو بن برّاقة الهمداني:
مَتَى تَجْمَعِ القَلْبَ الذَّكِيَّ و«عَجْرَةً» *** وَأَنْفًا حَمِيًّا تَجْتَنِبْكَ المَظَالِمُ
ونقيضهم «المتأنثون» الموسومون بـ«الخكارية» الذين يميلون إلى التشبه بالفتيات في التصرفات والمظهر ونمط الكلام كي ينالوا إعجابهن كما قال أبو تمام :
أَحْلَى الرِّجَالِ مِنَ النِساءِ مَواقِعًا *** مَن كانَ أَشبَهَهُمْ بِهِنَّ خُدودا
ولفظهم في التحية «هاي»، وفي التوديع «باي»، وفي الخوف «ياي»، وشعارهم كما قال ابن المعتز:
وَيلي مِنَ الناسِ وَمِن لَومِهِمْ *** ما لَقِيَ الناسُ مِنَ الناسِ
لو رأوا فقعة القاع ولّوا على أدبارهم، ولو صرخ فيهم الأبح انخلعت قلوبهم، ولو تعطل المكيف جزءًا من الساعة فهو أصعب موقف يمر عليهم في الحياة؛ لا يُسر بهم الصديق ولا يغاظ بهم العدو، ليسوا بنبع إذا عدوا ولا غرب.
الشباب المتأنثون المتميعون كانوا مستغربين بسلوكهم دون نمط تفكيرهم، فتراهم يقلدون الفنانين الغربيين حذو القذة بالقذة فانقلب مظهرهم، وبدلوا سلوكهم الأدنى بالذي هو خير.
كنا نراهم في الشارع وقد لبسوا الضيق حتى ضج منهم «الجنـز»، وقصوا الشعر ووضعوا المساحيق فلم تفرق عائلتهم بينهم وبين أخواتهم، وصار قدوتهم «مايكل جاكسون».
ثم تطور الأمر بهم إلى «المحاكاة» في الرقص وطرائق الكلام؛ ولأنهم يرقصون على النمط الغربي الحديث الذي يعتمد على الحركات السريعة ذات الزوايا الحادة والانعطاف المتكسر، ويكثرون الانبطاح ما بين ظهر وبطن، فقد ورثوا هذه التصرفات – لا شعوريًا- حينما انقلبوا إلى متلبرلين، فتراهم منبطحين لأسيادهم الغربيين فكريًا.
وهذا ما يسمى في علم النفس بـ«التوحد» وقد يطلق عليه «التعيين الذاتي» أو «التقمص» ويكتسب بها الشخص «خصائص شخص آخر تربطه به روابط انفعالية قوية، وتشمل هذه الخصائص السلوك والأفكار والانفعالات العاطفية».
فتحول الاستلاب عندهم من الفنانين من أمثال «مايكل جاكسون» إلى السياسيين والمفكرين من نمط «توماس فريدمان».
فلا تعجب من انبطاحهم أمام الغربيين؛ لأنهم قد أشربوا الانبطاح منذ الصغر؛ إنما اختلف الانبطاح من حسي إلى فكري.
ولا تعجب من سرعة تقلبهم؛ لأنهم قد تشبعوا التقلبات الحادة في الرقص.
ولا تعجب من حزنهم الشديد وأسفهم العميق وعاطفتهم الجياشة على صرعى «كاترنيا»، وتجاهلهم الأعمى وشعورهم الأصم وضربهم صفحًا عن الصرعى المسلمين بيد الاحتلال والجوع؛ لأن توحدهم لم يقتصر على المنظر والمخبر بل شمل العواطف، واتخذوا ترنيمتهم مع الغرب :
أَنَا مَنْ أَهْوَى وَمَنْ أَهْوَى أَنَا *** نَحْنُ رُوحَانِ حَلَلْنَا بَدَنَا
وصار كثير منهم ساديين يتلذذون بنكال الغرب بالمسلمين، ومقاومة المحتل –المشروعة لدى المحتل نفسه- تنقلب عندهم إرهابًا، والاحتلال –باعتراف الجاني نفسه-يتحول عندهم تحريرًا، وآخر دعواهم «باسم الرب، انصر أمريكا»، وإنْ شئت فاختزل تبعيتهم هذه في لفظة واحدة «متأمركون».
ولا تعجب من تقليدهم للسيّء وتركهم الجيد؛ لأنهم قديمًا قلدوا الرقص ولم يقلدوا العلم والصناعة.
فإذا قارنت بين حالهم قبل «التلبرل» وبعده تبين لك أن صفاتهم ورثوها كما هي ولم يختلف –عند قلة منهم- سوى الانتقال من «التوحد الحسي» إلى «التوحد المعنوي»، وكثير منهم جمع الأمرين «حشفًا وسوء كيلة».
* * *
يقول طرفة بن العبد:
أَبا مُنذِرٍ أَفنَيتَ فَاستَبقِ بَعضَنا *** حَنانَيكَ بَعضُ الشَرِّ أَهوَنُ مِن بَعضِ
نعم ، بعض الشر أهون من بعض، فالانحراف السلوكي الذي لا يمس حريات الآخرين أهون من الانحراف الفكري؛ لأن السلوك يمكن –غالبًا- تقويمه بينما يندر رجوع المنحرف فكريًّا، ناهيك عن أن تأنث الرجل معيب كما أن ترجّل المرأة مستقبح؛ فشاب متعجرف يتصف بسمات كثيرة من «الرجولة» خير من شاب متميع يتحلى بسمات قليلة من «الأنوثة».
هذه هي قصة الانبطاح الفكري للمتلبرلين، كتبتها لأن أحدهم من الصنف الثاني وصف المتدينين بالوصف الأول متهكمًا بهم، فهذه رسالة إليه.
* * *
(1) عربجي : من تأثير اللغة التركية إبان الحكم العثماني؛ لأن «جي» هي لاحقة النسب في اللغة التركية ولهذا دخلت في ألفاظ كثيرة «قهوجي = قهوي»، «مصلحجي =مصلحي»، «سفرجي = سفري»، «عربجي= قائد العربة»، وأطلقت على بعض المركبات الخاصة بالتحميل فقيل «عربجية».
(2) لم أستطع تحديد أصل الكلمة؛ لكن مما يستأنس به أن هناك نوعًا من الماشية يقال له «خكري» وهو ضعيف البنية مقارنة بـ«النجدي»، أو «النعيمي»، فربما نقل معناه من الخروف إلى الشاب المتأنث.