عندما يبحر الدكتور مصطفى محمود فى علم من العلوم ..تجد نفسك مشدودا مذهولا ..بسلاسة اسلوبه ومقدرته على ايصال المعلومه وتبسيطها للمتلقي..وعندما تحدث عن اغرب السوائل الا وهو الماء ..دفعتني محبتي لكم ان انقل بعض منها لكم :
الماء السائل السحري
إن الماء هو أعجب المركبات علي الإطلاق فأكثر من ثلثي الجسم الحي بالوزن مؤلف من الماء. وثلاثة أرباع سطح الأرض مغطي بالماء.
وعندنا325 مليون ميل مكعب من الماء في المحيطات وجليد القطبين.. وثلاثة آلاف ميل مكعب من الماء معلق في السماء علي شكل بخار, و2 مليون ميل مكعب من الماء في جوف الأرض.
وبعض الكائنات تستطيع أن تعيش بلا هواء. ولكن لا يوجد كائن واحد حي يمكن أن يعيش بلا ماء.
والماء الذي تقول عنه الكيمياء إنه بلا لون وبلا طعم وبلا رائحة تعود فتصفه بأن له أعجب وأخطر الخواص في دنيا المركبات.
فجميع السوائل تنزل إلي تحت بالجاذبية إلا الماء, فهو يصعد إلي فوق ضد الجاذبية بالخاصة الشعرية, وبهذا هيأته طبيعته ليصعد في جذوع الشجر والنخيل والنبات إلي أي مدي من النماء.. ولولا ذلك لما ارتفعت ساق خضراء فوق الأرض.
وجميع السوائل تنكمش بالبرودة وتزداد في الوزن إلا الماء, فهو يتجمد بالبرودة, ويخف في الوزن.. ولذلك أمكن لصفائح الجليد البارد أن تطفو وتغطي مياه القطبين وتحفظ المياه تحتها دافئة بالعزل صالحة لحياة الأسماك والحيتان, ولولا ذلك لماتت الحياة البحرية في الشتاء وتحولت البحار إلي جمد مهلك.
والماء بحسب تركيبه الذري كان لابد له أن يتجمد في درجة مائة تحت الصفر ويسيل في درجة تسعين تحت الصفر, هكذا تقول لنا علومنا الذرية. وكان معني هذا ألا يوجد في ظروف الأرض إلا علي هيئة بخار.. ولكن الذي حدث أنه يتجمد في الصفر ويغلي في مائة, وبهذا أمكن له أن يوجد في المكان الواحد في الأرض علي هيئاته الثلاث: بخار, وسائل, وصلب, وهو أمرآخر حيوي كان لابد من توافره لتقوم علي الأرض حياة.
والماء هو السائل الوحيد الذي يملك قدرات خرافية علي إذابة الأشياء والتفاعل معها.. فهو يأكل الحديد.. والصخر.. ونصف المركبات المعروفة وجدت ذائبة في الماء.
والجزيء المائي كما يشرحه لنا علم الطبيعة الجزيئية هو الآخر جزيء خارق مدهش.. فالأكسجين ملتحم بالأيدروجين علي طريقة العاشق والمعشوق, والذرتان داخل بعضهما في بعض.. والإلكترون الوحيد في ذرة الأيدروجين داخل في ذرة الأكسجين, وله وظيفة في مدارها.. مما أدي إلي استقطاب الجــزيء استقطابا كهربائيا, فأحد طرفي الجزيء موجب وهو الطرف الأيدروجيني والطرف الآخر سالب وهو الطرف الأكسجيني.
وهذه الصفة العجيبة جعلت من الجزيء شيئا أشبه بمغناطيس وجعلت الجزيئات تتماسك بشدة وتتجاذب كما تتجاذب عدة من المغناطيسات, مما أدي إلي ظاهرة التماسك السطحي التي نسميها ظاهرة التوتر السطحي للماءSurfacetention فيمكنك أن تضع شفرة حلاقة من الصلب برفق فوق سطح الماء, فتطفو بسبب هذا التماسك السطحي الذي لا يسمح لشيء باختراقه. وتكهرب الجزيئات المائية هو الذي يفسر الخاصة الشعريةSurfacetention وهي الخاصة التي يتسلق بها الماء إلي أعلي ضد الجاذبية. والواقع أنه يتسلق بالجذب المغناطيسي بين ذراته وبين جدران الأوعية الشعرية. وبالتالي يجذب السطح المائي كله معه لأن السطح كله متماسك.
وهذه الصفات الكهربائية للجزيء هي السر في قدرة الماء الخرافية علي الإذابة.. لأن الطرف الموجب للجزيء يشد إليه الشق السالب من أي مادة, والطرف السالب يشد إليه الشق الموجب فتنحل المادة إلي شقيها السالب والموجب, وهو ما نسميه بالأيونات السالبة والموجبة وتتأين المادة أو تذوب بلغتنا الدارجة.
وربما كان أعجب ما في الماء قدرته علي خزن وتصريف الحرارة. وكلنا نعلم من خبراتنا العادية أن قضيبا ساخنا من الحديد يمكن أن يبرد في ثوان علي حين يظل الماء ساخنا في البانيو ساعات قبل أن يعود إلي برودته.
وهي صفة تصبح حيوية جدا حينما نعلم علاقة تبادل الطاقة بين مياه المحيطات والشمس.
فالمحيطات هي الغلاية اليومية التي تسخنها الشمس فتتبخر مياه المحيطات بالحرارة وتصعد إلي السماء.... ثم إلي أعلي... إلي أجواء السماء الباردة فتتكثف سحبا... ثم تهطل أمطارا, ثم تسيل أنهارا لتصب في المحيطات من جديد.
دورة مائية يومية.
وتبلغ الطاقة الشمسية الحرارية المستخدمة في هذه الدورة في اليوم الواحد أكثر من كل ماأنتج الإنسان من طاقة خلال تاريخه كله.
والذي يقتنص هذه الطاقة ويحفظها ويصرفها ويوظفها هو جزيء الماء العجيب.
والماء يتبخر من المحيطات ثم يعود إلي المحيطات من جديد في كم كلي ثابت لاينقص ولايزيد.... وهذه معجزة أخري... فمنذ ثلاثة آلاف مليون سنة منذ بدء الماء علي الأرض وكميته ثابتة لا تزيد ولاتنقص... وربما كان الماء الذي تصنع منه اليوم كوبا من الليمونادة هو نفس الماء الذي استحمت به كيلوباتره, وهو ذاته الذي تمضمض به خوفو من آلاف السنين.
والماء الذي اقتنص الطاقة من الشمس يعود فيصبح مصدرا للطاقة وتنظيم الطقس... ثم يعود فيصبح مصدرا للطاقة من باب آخر هو مساقط الماء والشلالات والقناطر والسدود.
والماء هو النحات اليومي الذي يقوم بتشكيل القارات والشواطئ والسواحل. ويقوم بحفر مجاري الأنهار وقيعان البحيرات, وهو الرافعة السحرية التي تنقل الجبال وتمهد الوديان.
هذا مايقوله علم الطبيعة والكيمياء والجيولوجيا عن الماء... وماتراه العين المجردة من شأن الماء.
أما في مجال البحث المجهري ومايراه الميكروسكوب في نقطة الماء فهو الامر المدهش والمثير.
فنقطة ماء من مستنقع تحتشد فيها عدة آلاف من أصناف الأحياء وعدة ملايين من الكائنات الدقيقة من فيروسات وبكتريا وفطر وطحلب.... شعوب وممالك وأمم من الكائنات يأكل بعضها بعضا وتتعايش وتتعامل وتتنافس وتتسابق.... وكل ذلك في نقطة ماء من مستنقع علي كوكب هو ذاته أصغر من هبأة في الكون الواسع.
ليس عجيبا بعد كل هذا أن نري الماء مذكورا في القرآن في64 موقعا علي أنه نعمة كبري يمن بها الخالق علي عباده.
(وأنزلنا من السماء ماء طهورا).[ الفرقان]
(ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات....)[ ق]
(وأنزلنا من السماء ماء فانبتنا فيها من كل زوج كريم)[ لقمان]
(وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض)[ المؤمنون]
(وجعلنا من الماء كل شيء حي....)[ الأنبياء]
(خلق كل دابة من ماء....)[ النور]
(خلق من الماءبشرا فجعله نسبا وصهرا....)[ الفرقان]
(أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون)[ الواقعة]
وفي أجمل الآيات يقول الله في مبدأ الخلق:( وكان عرشه علي الماء....)[ هود]
وإذا اعتبرنا الآية تعبيرا بالمجاز عن عظمة الماء وخطره, فالمعني واضح فقد رأينا أن الحياة كلها عبارة عن محلول مائي وأن كان الماء هو وسيط الفعل الإلهي في المخلوقات جميعها, فعرش الله وسلطانه وقبضته تتم كلها من خلال الماء.
إما إذا وقفنا عند الحروف واعتبرنا المعني لغزا ممالا يعلمه إلا الله... فإنه منتهي التشريف أن يجيء ذكر الماء مقترنا بالعرش الإلهي.
وهو تشريف قد رأينا أسبابه.
ألم نجد في نقطة الماء الواحدة أمما وشعوبا وقبائل وملايين الخلائق مما لاتري العين.
ألم نجد في جزء الماء البسيط معجزة تركع أمامها علوم الكيمياء والطبيعة والجيولوجيا وتحار فيها عقول العارفين.
هذا الجزيء الذي يخزن الطاقة ويفجر الحياة ويذيب الصخر وينحت القارات وينظم الطقس. هذا اللؤلؤ المذاب والماس السائل الذي يجري علي حلق العطشان أحلي من القبل وأعذب من صرافة الخمر.
حقا... ماأحفل هذه الكلمات القليلة بالأسرار حينما ترتلها القلوب وتتأملها العقول.
( وكان عرشه علي الماء....)[ هود]
منقول للفائدة