بســم الله الـرحمــن الرحيــم
في هذا سنتحدث عن أحـكـام التعامل مع غير المسلمين في الجانب الدنيوي , وذلك عن:
- خصائص ومميزات الرسالة المحمدية .
- من هم غير المسلمين .
- جوانب التعامل مع غير المسلمين الدنيوية :
1- الإحسان في المعاملة .
2- الصبر على أذاهم .
3- استعمال أدواتهم ولبس ما يصنعون .
4- الأكل من مآكلهم , والشرب من مشاربهم .
5- زيارتهم وصلة رحمهم .
6- عيادة مرضاهم .
7- التهادي بينهم وبين المسلمين .
8- حقوقهم في موتاهم .
9- الزواج منهم .
10- التعامل الإقتصادي .
11- الإختلاط بهم إجتماعياً .
خصائص
الرسالـة المحمديـة
لقد علمنا من خلالِ ما سبق بما لا مجال فيه للشك أن ما جاء به
- هو المنقذ الوحيد للناس من ظلام الجهلِ , وجور الحكام , واستبداد الأعداء .
و منذ أن بدأ دعوتَه انقسم الناس بين مؤمن به ومكذب له . ولأن دعوته ليست كمثيلاتها السابقة فقد تميزت عنها بأنها :
ا) كل دعوة قبلها كانت خاصة لقوم نبيها , ودعوته عامة لكل الناس .
ب ) دينه الذي دعا إليه نسخ جميع الأديانِ التي قبله , ممَّا يلزم أتباعَ تلك الأديانِ أن يتبعوه . وما نسخت إلا لأنها حرفت وبدلت . ومن أصر على شيٍء منها لا يقبل منه . ودليله قوله تعالى : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامَ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [ آل عمران : 85] .
وقوله تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِ مُصُدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتاَبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنزلَ اللهُ وَلا تَتَبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِيَبْلَوَكُمْ فِي مَا آتاَكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِئُكُم بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) [ المائدة : 48]
جـ ) جميع الكتب السماوية السابقة بشرت بدعوته , وذكرت أوصافه , وحتى صفات أتباعه . كما في قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) [ الصف : 6]
د ) أعطى الله تعالى أمته خصائص لم تعط لأحد قبلهم , منها :
1- أُحلت لهم الغنائم , وقد كانت محرمة على من قبلهِم .
2 - جعلت لهم الأرض مسجداً وطهوراً , فتقبل صلاتهم حيث كانوا , ومن قبلهم لم تكن صلاتهم تقبل إلا في بِيعهِم وصوامعهم .
وفي ذلك روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه- أنَّ النبي قال : (( أُعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي , نصرت بالرعب مسيرة شهر , وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً , فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل , وأُحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي , وأعطيت الشفاعة , وكان النبي يبعث خاصة وبعثت إلى النَاس عامة)) ( 1/ 86 ) .
هذه الميزات وغيرها مما لم نذكره , يجعلها الديانة المناسبة لكل النَاس وفي كل زمان .
وقد دعا الرسول إليها بالوسائل والأساليب التِي علمه الله إياها , وفطره عليها . وهو قدوة لكل فرد من أفراد أمَته, أن ينهج نهجه في الدعوة إلى دينِ الله .
ومع مرور الزمن اختلط على بعضهم الأمر , خصوصاً في التعامل مع غير المسلمين , ممَّا جعل من الضرورة توضيح ذلك , من خلال استقراء التوجيهات الربانية في القرآن الكريم من رب العالمين لسيدِ المرسلين , ومن خلال سيرته العطرةِ , وسيرة أصحابه - رضوان الله عليهم - , الذين عاشوا معه وتربوا على نهجهِ , وما قاله بعض أئمة سلفنا الصالح , لنعرف الأحكام الشرعية في التعاملِ مع غير المسلمين .
وكما قلنا سابقاً , توضيح هذا الأمر يتطلب معرفة من هم غير المسلمين ؟ وما الحق الشرعي الواجب لهم في التعاملِ معهم ؟
تعريف غيرِ المسلمين : هم من لم يؤمن برسالة نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم , ولم يؤمن بكل ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة .
أو لم يؤمن بأصل معلوم منها بالضرورة " مثل الصلوات الخمس , وصوم رمضان , وأداء الزكاة ممن وجبت عليه , وحج البيت على من كان قادراً , وأن القرآن كلام الله تعالى ...
ويُسمون ( الكفار ) : و معنى كلمة كفَار من كَفرَ , وكَفرَ الشيَء أي سترهُ وغطاهُ . يقال : كَفرَ دِرْعَهُ ِبثَوبِهِ , أي غَطَاهَا به وََلبسَه فَوقََهَا . وكَفراً وكفراً وكفوراً وكفراناً : ضد آمنَ – وبالخالقِ : نفَاه وعطَله . المنجد في اللغة والأعلام .
أصنافهم :
الصنف الأول :غير المسلمين ظاهراً وباطناً .
وهم من لم يسبق لهم الدخول في دين الإسلامِ, وهؤلاء منهم أهل كتاب , ومجوس , وغيرهم.
وأهل الكتاب يسمون كفاراً ؟
1- لأنهم حرفوا فيما عندهم من كتب سماوية , وبدَلوا فيها , ( أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِفُونَهُ مَن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) [ البقرة : 75]
2- وآثروا الدنيا على الآخرةِ : ( وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بآيَاتِي ثَمَنَا قَلِيلاً وَ إِيَّايَ فَاتَقُونِ * وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُم تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ * أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُم تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) [ البقرة : 41/44]
هذه الآية توضح بعض أعمالهم , منها أنهم كفروا برسالة محمد صلى الله عليه و سلم رغم أنهم على علم بصدقه , مما جاءهم في كتبهم ,و أنهم آثروا الأمور الدنيوية الحقيرة , مثل الجاه والمال والرياسة على آيات الله , وأنهم خلطوا الحق بالباطلِ – بتحريف ما في الكتب السماوية – عمداً, تلبيساً على الناس وإفساداً لعقائدهم , وأنهم يأمرون بالمعروف , ويتركون العمل به . وغير ذلك من الأفعال التي أخرجتهم من كونهم أهل كتاب إلى دائرة الكفر بالله .
3- يؤثرون الضلال على الهدى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل * والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا * من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) [ النساء : 44-46]
الصنف الثاني : مرتدون:
وهم من دخل في دين الإسلام ثم خرج منه , سواء أكان بالغاً حين دخل في دين الإسلام ثم ارتد , أوقع في كفر النفاق بعد بلوغه وقد ولد لأبوين مسلمين , وثبت الكفر عليه بشروطه .
الصنف الثالث : من أظهر الإسلام وأبطن الكفر ويسمون " المنافقون " .
وقد سمى الله في القرآن سورة باسمهم , ذكر فيها حقيقتَهم , و مواقفهم السيئة مع الرسول صلى الله عليه و سلم, هي "سورة المنافقون "وكذلك في "سورة التوبة " وغيرها .
جوانب أحكام التعامل مع غير المسلمين :
إن أحكام التعامل معهم لها جانبين : 1) جانب دنيوي : ويحوي جانبين أيضاً :
ا- ما يوافق شرعنا
ب - ما يخالف شرعنا .
2) جانب عقيدي :
و كلا الجانبين يختلف حكم التعامل الشرعي, حسب حالة غير المسلم من حيث :
ا - كفار محاربون .
ب - كفار غير محاربين .
وعند الحديث عن الأحكام لن نذكر مع كل حكم لأي الجانبين هو , حيث جميع الأحكام في التعامل الدنيوي والأحكام الشرعية تخص الفئة غير المحاربة , أما الفئة المحاربة فهي التي يخصها جانب الجهاد وما يتبعه من أحكام .
الجانب الدنيوي
لاشك أنه من المستحيل أن تتميز حياة جميع المسلمين عا مة عن غير المسلمين , وذلك بسبب أن كثيراً من الدول رعاياها خليط من الإثنين . وكذلك حاجة بعض المسلمين للعيش بين غير المسلمين , كما في طلب العلم , أو الدعوة , أو كسب الرزق وغيره . وكذلك حاجة بعض غير المسلمين للعيش مع المسلمين لأسباب دنيوية .
فالرسول عاش في مكة بين ظهراني مشركيها , وفي المدينة شاطره العيش هو ومن معه من المؤمنين قبائل من اليهود ,منهم يهود قريظة , وبنو قينقاع ,وبنو النضير , وكذلك فئة المنافقين . و كان الرسول يتعامل معهم , ومن خلال تعامله سنلقي الضوء على أحكام التعامل مع غير المسلمين – كفارغيرمحاربين - دينياً ودنيوياً .
والتعامل الدنيوي له جوانب عدة منها :
أولا : الإحسان في المعاملة :
1- كان فضالة بن عمير بن الملوح قد فكر في قتل الرسول وهو يطوف يومَ الفتح , فلمَّا دنا من الرسول صلى الله عليه وسلم قال له : (( ما كنت تحدث به نفسك ؟ قال : لاشيء , كنت أذكر الله تعالى . فضحك الرسول و قال : استغفر الله , ثمَّ وضع يده على صدره . )) فكان فضالة يقول : والله ما رفع يدَه عن صدري حتى ما أجد على ظهر الأرض أحب إلي منه . الإصابة في تمييز الصحابة للعسقلاني .
هذه الحادثة تبين لنا أن فضالة كان من الصنف الثاني من غير المسلمين . وهم من أظهر الإسلام وأبطن الكفر . وأنَّ المعاملة الحسنة من الرسول صلى الله عليه و سلم - لفضالة - مع الحذر والحيطة - حولت الكره إلى حب , وأثمرت نجاة إنساناً من ظلمات النفاقِ إلى نور الإسلام . وهذا هو الهدف المنشود , في التعاملِ مع غير المسلمين , السعي في نجاتهم لا إهلاكهم .
2- عن عروة بن الزبير قال : أخبرني أسامة بن زيد - رضي الله عنهما – أن النبي ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فَدكية , وأردف وراءه أسامة بن زيد , وهو يعود سعد بن عبادة , في بني الحرث بن الخزرج , وذلك قبل وقعة بدر , حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين , والمشركين عبدة الأوثان , واليهود , وفيهم عبد الله بن أبيّ بن سلول, وفي المجلس عبد الله بن رواحة , فلما غشيت المجلس عجاجة الدابَة خمَّر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه , ثم قال : لاتغبروا علينا . فسلم عليهم النبي ثم وقف , فنزل فدعاهم إلى الله , وقرأ عليهم القرآن . فقال عبد الله بن أبيّ بن سلول : أيها المرء , لا أحسن من هذا إن كان ما تقوله حقاً , فلا تؤذنا في مجالسنا , وارجع إلى رحلك , فمن جاءك منا فاقصص عليه. قال ابن رواحة : اغشنا في مجالسنا , فإنا نحب ذلك . فاستب المسلمون والمشركون واليهود, حتى همُّوا أن يتواثبوا . فلم يزل النبي يخفضهم حتى سكتوا . ثم ركب دابته. حتى دخل على سعد بن عبادة , فقال : (( أي سعد , ألم تسمع ما قال أبو حُباب - يريد عبد الله بن أبيّ – قال كذا وكذا )) قال : اعف عنه يا رسول الله واصفح , فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك , ولقد اصطلح أهل هذه البحرة – أي القرية - على أن يتوجوه فيعصبونه بالعصابة , فلما ردَّ الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك , فذلك فعل به ما رأيت . فعفا عنه صحيح البخاري ( 7/ 132 ) .
الشاهد من هذا الحديث هو تسليم الرسول صلى الله عليه و سلم على كل من في المجلس . ويدل على جواز التسليم على غير المسلمين إذا كانوا في مجلس واحد مع المسلمين .
و نزول الرسول ودعوتهم , وقراءة القرآن عليهم , رغم تصرف عبد الله بن أبيّ – تخمير وجهه بالرداء – وقوله – لا تغبروا علينا – والذي يدل على كرهه لمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم -. فهذا يدل على حسن معاملة الرسول لغير المسلمين , وصبره على أذاهم القولي والفعلي.
و موقفه حين اشتد الخلاف بين من في المجلس , دليل على أنَه يريد كسب العدو بالتي هي أحسن . كما قال تعالى : ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَِإِذَا الذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الذِينَ صَََبرُوا وَمَا يلُقَاهَا إِلا ذُو حَظٍ عَظِيمٍ ) [ فصلت : 34-35]
فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته , وعدم العفو عنه , فكيف بالإحسان ؟!!
فإذا صبر الإنسان نفسه , وامتثل أمر ربه , وعرف جزيل الثواب , وعلم أن مقابلتة للمسيء بجنس عمله , لا تفيده شيئاً , ولا تزيد العداوة إلا شدة , وأن إحسانَه إليه ليس بواضع قدره , بل من تواضع لله رفعه , هان عليه الأمر , وفعل ذلك متلذذاً مستحلياً له .
( وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) لكونها من خصالِ خواص الخلقِ , التي ينال بها العبدالرفعة في الدنيا والآخرة , التي هي من أكبر خصال مكارم الأخلاقِ .
و إن حديث الرسولِ عليه الصلاة و السلام مع سعد- رضي الله عنه- , ليس شكوى , وليس تعبيراً عن التضايق ممَّا حدث , بل هو صلوات الله وسلامه عليه أكبر من ذلك . لكن - والله أعلم - هو حديث المشفق على ابن أبيِّ من عظم الذنب الذي ارتكبه . وهو بذلك يضرب لنا أروع الأمثلة في حسن التعامل مع غير السلم , حيث نعامله معاملة المشفق عليه من غِبِّ ما هو عليه . وهذا يتطلب بذل الجهد في دعوته , مصحوباً بصفة الصبر على أذاه .
و موقف سعد - رضي الله عنه- في ردِّه على الرسول يُظهر لنا حقيقة الشخصية المسلمة من جانبين :
الأول : مع ولي الأمر - وكيف وهو سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه - فلا بدَّ من النصرة لهم بالمعروف , والحكمة . والإشارة إلى ما هم عليه من صواب , والثناء عليهم بما أولاهم الله من فضل . ثمَّ طرح الرأي في الأمر بما فيه مصلحة الدِّين .
الثاني : ذكر ما يعرف من مثالب العدو بصدق , دون تضخيم لها ولا تهوين من شأنها . لأنَّ تضخيمها أو التهوين من شأنها , يؤدي إلى خطأ في مواجهتها , وسوء تصرف في علاجها وتقديرها . فينبني على ذلك سوء عرض لمباديء العقيدة . ومن ثمَّ حكم في غير موقعه .
كيف نرد السلام على غير المسلمين إذا بدءونا بالسلام ؟
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله قال : (( إذا سلَم عليكم اليهود , فإنَما يقول أحدهم السَّامُ عليك ,فقل وعليك)) وقال البخاري : حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا هشيم أخبرنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس حدثنا أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال النبي - : (( إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم )) ( 7/ 134 ) ومسلم ( 7/ 3) .
إن تعليم الرسول لأمته , كيف يردون السلام إذا سلم عليهم غير المسلمين , فيه تمام العدل , حيث كلمة ( وعليكم ) يتحدد معناها حسب نواياهم هم , وهي دعاء . فإذا كانت نواياهم من السلام حسنة نالوا هم خير ذلك , فيكون الرد من المسلم " وعليكم " الذي قلتموه . والعكس كذلك . وكما قال الرسول : (( فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في. )) صحيح البخاري ( 7/ 81) .
و في هذا الرد حفظ للمشاعر من كلا الطرفين , فالمسلم يشعر بعزته , فعدوه لن يضره بما قال, وغير المسلم لا يجد الرد الذي يثير حفيظته , وحقد قلبه , فيعود خائباً , وقد يكتب الله له الخير فتؤثر هذه المعاملة به فيسلم .
هل ندعو لهم بالهداية ونستغفرُ لهم ؟
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة- رضي الله عنه - قال : قدم الطُفيل بن عمرو على رسول الله فقال : يارسول الله , إنَّ دوساً قد عصت وأبت , فادع الله عليها , فظن الناس أنَه يدعو عليهم , فقال : (( اللهمَّ اهد دوساً وائتِ بهم ))
يقول ابن حجر : ( ..... الدعاء على المشركين جائز , وإنما النهي عن ذلك في حق من يرجى تألفهم , ودخولهم في الإسلام , ويحتمل في التوفيق بينهما , أن الجواز حيث يكون الدعاء بما يقتضي زجرهم عن تماديهم على الكفر , والمنع حيث يقع الدعاء عليهم بالهلاك على كفرهم , والتقييد بالهداية , يرشد إلى أن المراد بالمغفرة في قوله في الحديث الآخر (( اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )) العفو عما جنوه عليه في نفسه , لا محو ذنوبهم كلها , لأن ذنب الكفر لا يمحي , أو المراد بقوله" اغفر لهم " اهدهم إلى الإسلام الذي تصح معه المغفرة , أو المعنى اغفرلهم إن أسلموا . والله أعلم ) فتح الباري ( 11/ 196) .
لم يدعو الرسول على دوس , بل دعا لهم بالهداية , فالحكم الشرعي أن ندعو لهم بالهداية . ولكن لا نستغفر لهم ,
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله : ((استأذنت ربي أن أستغفر لأمِّي فلم يأذن لي , واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي ) ( 3/ 65).
لذلك لا يجوز الاستغفار للمشركين مهما كانت الأسباب .
وأورد البخاري في باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين , ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - أنه قال : " لما مات عبد الله بن أبيّ بن سلول . دعي له رسول الله صلى الله عليه و سلم صلي عليه , فلما قام رسول الله وثَبت إليه , فقلت يارسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا , أعدد عليه قوله , فتبسم رسول الله وقال : (( أخِّر عنِي يا عمر , فلما أكثرت عليه , قال : إني خيرت فاخترت , لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له , لزدت عليها)) قال: فصلى عليه رسول الله ثم انصرف , فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة ( ولاتصل على أحد منهم مات أبداً إلى وهم فاسقون ), قال : فعجبت بعد من جراءتي على رسول الله يومئذ والله ورسوله أعلم " ( 2/ 100 ) .
وكذلك في حال العطاسِ :
حيث روى أبو داود في سننه عن أبي بردة عن أبيه قال : كانت اليهود تعاطس عند النبي رجاء أن يقول لها : يرحمكم الله , فكان يقول : (( يهديكم الله ويصلح بالكم )) ( 4/ 310 ) .
إن الدعاء لهم بالهداية من تألفهم , وقد عقد البخاري باب بهذا المعنى – باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم – وأورد فيه حديث الطفيل بن عمرو الدوسي - سبق ذكره - .
وهل يجوز الدعاء عليهم ؟
ذكر البخاري باب " الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة "
عن علي - رضي الله عنه - قال : " لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله : (( ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً , شغلونا عن صلاة الوسطى , حين غابت الشمس ))
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : كان النبي يدعو في القنوت : ((...............اللهم اشدد وطأتك على مضر , اللهم سنين كسني يوسف ))
وعن عبد الله بن أبي أوفى- رضي الله عنه- يقول : دعا رسول الله يوم الأحزاب على المشركين فقال : (( اللهم منزل الكتاب , سريع الحساب , اللهم اهزم الأحزاب , اللهم اهزمهم وزلزلهم ))
وعن عبد الله - رضي الله عنه - قال : كان النبي يصلي في ظل الكعبة , فقام أبو جهل وناس من قريش , ونحرت جزور بناحية مكة , فأرسلوا , فجاءوا من سلاها , وطرحوه عليه , فجاءت فاطمة فألقته عنه , فقال : (( اللهم عليك بقريش , اللهم عليك بقريش, اللهم عليك بقريش )) لأبي جهل بن هشام , وعقبة بن ربيعة , وشيبة بن ربيعة , والوليد بن عتبة , وأبي بن خلف , وعقبة بن أبي معيط . قال عبد الله : فقد رأيتهم في قليب بدر قتلى.
عن عائشة - رضي الله عنها -: إن اليهود دخلوا على النبي - فقالوا : السام عليك . ولعنتهم – أي عائشة – فقال : (( مالك؟ قلت : أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال : فلم تسمعي ما قلت : وعليكم . )) ( 3/ 233 ) .
في الجمع بين هذه الآحاديث نرى أن الرسول دعا على المشركين في مواقف عدوانهم عليه بالأذى – كما فعلت قريش واليهود – أو بالمحاربة – كما في غزوة الأحزاب, أو على من غدروا – كما في دعائه على مضر - . ولم يثبت عنه أنَه دعا على من لم يستحقه بفعله , بل كما ورد ,كان يدعو لهم بالهداية – كما في حادثة دوس - .
ثانيا : الصبر على أذاهم :
شكوى الحال من الرسول لربِه , دليل على شدة ما ناله من أذى المشركين .
وأمره الله تعالى بالصفح : وهو العفو عما بدر منهم , من أذى قولي أو فعلي , وأمره ﭽ ﰄ ﰅ ﭼ أي لا يصلكم مني مستقبلاً إلا الإحسان في المعاملة والقول , فيكون الإحسان إليهم في المعاملة حالاً ومستقبلاً .
ثم إن ثمرةَ هذا الصبر على أذاهم والإحسان إليهم بالعفو , كانت على مدار سنوات دعوته فمن كانوا بالأمس أعداء ,صاروا أصحاباً, يحبونه وينصرونه , ويفدونه بأرواحهم .
وقوله تعالى : ( فسوف يعلمون ) هذا التهديد من الله تعالى لأعداء دينه ونبيه , سلاح فعال في صد عدوانهم , فالله قد تكفل لنبيه بهم , وبمعاقبتهم في الدنيا والآخرة على كل ما يفعلونه إن لم يكفوا . إذن الأمر في دعوتهم يتطلب منه أن يكون صبوراً , حليماً , متسامحاً معهم , حتى يقبلوها منه . وهدايتهم أو عقابهم أمره لله تعالى .
2- صبرالرسول على أذى أقرب النَاس إليه نسباً وجواراً , وهما عمه أبو لهب وزوجه,فعمه كان يمشي خلفه , وهو يطوف على النَاس في المواسم , يعرض عليهم دعوته, ليصد النَاس عنه . وزوجته تحمل الشوك والأذى وتضعه في طريقه.
و روى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : بينما رسول الله يصلي عند البيت , وأبو جهل وأصحاب له جلوس , وقد نحرت جزور بالأمس . فقال أبو جهل : أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد ؟ فانبعث أشقى القوم , فأخذه , فلما سجد النبي وضعه بين كتفيه , قال : فاستضحكوا , وجعل يميل بعضهم على بعض , وأنا قائم أنظر, لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله والنبي -ساجداً ,ما يرفع رأسه , حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة ,فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه, ثم أقبلت عليهم تشتمهم , فلما قضى النبي صلاته , رفع صوته ثم دعا عليهم , وكان إذا دعا دعا ثلاثاً , وإذا سأل سأل ثلاثاً ثم قال : (( اللهم عليك بقريش " ثلاث مرات , فلما سمعوا صوته , ذهب عنهم الضحك , وخافوا دعوته , ثم قال : اللهم عليك بأبي جهل بن هشام , وعتبة بن ربيعة , وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة ,وأميَّة بن خلف , وعقبة بن أبي معيط )) - وذكر سابعاً ولم أحفظه – فوالذي بعث محمداً بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر, ثم سحبوا إلى القليب - قليب بدر- .) ( 5/ 180 ) .
فالجار الكافر لا يراعي حرمة الجوار أبداً , وهذا لا يسقط حقه في حسن الجوار .
لأن الكافر يزين له الشيطان أذية جاره المؤمن – كما فعل بالرسول جيرانه من المشركين – .
والمؤمن يأمره الشرع بحسن الجوار , حتى مع الجارالكافر المؤذي , لأن صبره وسيلة من وسائل الدعوة , التي تظهر عظمة الدين الذي يدعو إليه , فيكون صبره سبباً من أسباب دخول الأعداء في الدين .
و قد يتطلب موقف الأذى من الكافر مواجهته بما يردعه , دون التعدي عليه , كما فعل الرسول بدعائه على من رموا سلا الجزور على ظهره , دون تعدي لا بفعل سيء مثل فعلهم , ولا قول فاحش بذيء ينال منهم . فالدعاء عليهم وسيلة فعالة يعرفون هم غبها عليهم, بدليل أنهم توقفوا عن الضحك . ولم يستطع أياً منهم أن يدعِي على الرسول بأنَه قد أخطأ عليه .
4- روى البخاري أن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي- حدثته أنَها قالت للنبي : (( هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال : " لقد لقيت من قومك ما لقيت , وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة , إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت , فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب , فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني , فنظرت فإذا فيها جبريل , فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك , وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم , فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال : يا محمد , فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين . فقال النبي -: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا . )) صحيح البخاري ( 4/ 83 ) .
إن سؤال أم المؤمنين - رضي الله عنها - هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ ينبيء عن مقدار المعاناة التي واجهها رسول الله من أعداء دينه , مع أنَهم قومه وعشيرته ! فالحال ستكون أشد من غيرهم من باب أولى , حيث القرابة , وإن كانت عداوة الكفر تطغى عليها , إلا أنها لابد وأن يظهر لها أثر رحمة من بعضهم , كما حدث من الذين نقضوا الوثيقة, والرسول ومن معه من المؤمنين , محاصرون في شعب أبي طالب .
والحادثة كما ترويها كتب السيرة , أن رؤوس الكفر والطغيان كتبوا ميثاقاً وعلقوه في الكعبة, وفيه مقاطعة جميع بنو هاشم وعبد المطلب , ما لم يسلموا لهم رسول الله ليقتلوه . فانحاز الرسول ومن معه من المؤمنين , وبني هاشم , وبني عبد المطلب , إلى شعب أبي طالب , واستمر الحصار عليهم ثلاث سنوات , تحملوا فيها من مرارة الجوع والأسى ما الله به عليم , حتى قام رجال منهم – المشركين - بنقض الصحيفة , وإنهاء المقاطعة , فعلوا ذلك وهم مشركون , حمِّية لبني هاشم وعبد المطلب .
و يذكر الرسول لزوجه عائشة - رضي الله عنها - أن ما لقيه من قومه أشد مما حدث له يوم أحد- ذلك اليوم الذي رماه به أحد الكفار بحجر كسر أنفه ورباعيته , وشجه في وجهه, وتفجر الدم ,و دخلت فيه حلقات المغفر في وجهه , فأكب عليه أبو عبادة ينتزعها بفمه , فما خرجت من الرسول حتى سقطت ثنايا أبو عبادة , ونزف دمه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه - وما توقف إلا عندما أحرقت ابنته فاطمة - رضي الله عنها - حصير وذرت رماده عليه . ومع ذلك كان ما لقيه أشد عليه ! .
و لم يخبر الرسول بتفاصيل ما لقي من أذى , لكن وصف الحال التي صار بها . وهي أنه خرج مهموماً على وجهه , لم يشعر بنفسه إلا وهو في قرن الثعالب , هذا الوصف يشعرنا كم هو مقدار الأذى الذي جعل الرسول في هذه الحال؟!
وكم هو عظم الذنب الذي اقترفوه , حتى أن الله تعالى يرسل ملك الجبال مع جبريل - عليه السلام - ليطبق عليهم الأخشبين – من جبال مكة - ؟!
وكم مقدار الصبر والحلم اللذين تحلى بهما وهو يقول : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا !! "
أين حظ النفسِ في هذا الموقف ؟
لقد تجلت من الرسول صلى الله عليه و سلم منقبة النظر إلى عواقب الأمور ,نظرة إيجابية بعيدة المدى , فنظر للبعيد نظرة تفاؤل , لمستقبل دعوته , نظرة توقع الخير حتى من أصلاب الشر , وقد نال ما تمنى , وحصل ما رجاه , فرأس الكفر والطغيان الوليد بن الغيرة , يخرج من صلبه سيف الله المسلول " خالد - رضي الله عنه -, وطاغية الكفر والضلال أبو جهل يخرج من صلبه " عكرمة " - رضي الله عنه -, وأمثالهم كثير .
وكذلك صبره على أذى اليهود بعد الهجرة إلى المدينة وفي ذلك :
روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان رسول الله سحر , حتى كان يرى أنَه يأتي النساء ولا يأتيهن , قال سفيان وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا . فقال : (( يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال : مطبوب . قال : ومن طَبه ؟ قال : لبيد بن أعصم - رجل من بني زريق حليف ليهود كان منافقاً - قال : وفيم ؟ قال : في مشط ومشاطة . قال : وأين ؟ قال : في جف طلعة ذكر تحت رعوفَة في بئر ذروان ". قالت : فأتى النبي البئر حتى استخرجه . فقال : " هذه البئر التي أريتها , وكأن ماءها نقاعة الحناء , وكأن نخلَها رؤوس الشياطين . قال : فاستخرج . قالت : فقلت : أفلا تنشرت , فقال : " أما والله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناَس شراً )) صحيح البخاري ( 7/ 29 ) ومسلم ( 7/ 14 ) .
لقد ضرب لنا الرسول صلى الله عليه و سلم في هذا الموقف أروع المثل في العفو والصفح عن العدو , والمعاملة الحسنة لمن يؤذيه , ما دام الأذى لنفسه , ولم ينتهك حرمة من حرمات الله
.
منقــــــــــــــــول للفائـــــــــــــــــدة