عدل الإسلام
الجزء الخامس آيات من سورة النساء
(انا انزلنا الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما اراك الله ولا تكن للخائنين خصيما )
هذه الآيات تحكي قصة لا تعرف لها الأرض نظيرا ولا تعرف لها البشرية شبيها وتشهد وحدها بأن هذا القرآن وهذا الدين لا بد أن يكون من عند الله ; لأن البشر مهما ارتفع تصورهم ومهما صفت أرواحهم ومهما استقامت طبائعهم لا يمكن أن يرتفعوا بأنفسهم إلى هذا المستوى الذي تشير إليه هذه الآيات ; إلا بوحي من الله هذا المستوى الذي يرسم خطا على الأفق لم تصعد إليه البشرية إلا في ظل هذا المنهج ولا تملك الصعود إليه أبدا إلا في ظل هذا المنهج كذلك إنه في الوقت الذي كان اليهود في المدينة يطلقون كل سهامهم المسمومة التي تحويها جعبتهم اللئيمة على الإسلام والمسلمين ; والتي حكت هذه السورة وسورة البقرة وسورة آل عمران جانبا منها ومن فعلها في الصف المسلم في الوقت الذي كانوا فيه ينشرون الأكاذيب ; ويؤلبون المشركين ; ويشجعون المنافقين ويرسمون لهم الطريق ; ويطلقون الإشاعات ; ويضللون العقول ; ويطعنون في القيادة النبوية ويشككون في الوحي والرسالة ; ويحاولون تفسيخ المجتمع المسلم من الداخل في الوقت الذي يؤلبون عليه خصومه ليهاجموه من الخارج والإسلام ناشىء في المدينة ورواسب الجاهلية ما يزال لها آثارها في النفوس ; ووشائج القربى والمصلحة بين بعض المسلمين وبعض المشركين والمنافقين واليهود أنفسهم تمثل خطرا حقيقيا على تماسك الصف المسلم وتناسقه في هذا الوقت الحرج الخطر الشديد الخطورة كانت هذه الآيات كلها تتنزل على رسول الله ص وعلى الجماعة المسلمة لتنصف رجلا يهوديا اتهم ظلما بسرقة ; ولتدين الذين تآمروا على اتهامه وهم بيت من الأنصار في المدينة والأنصار يومئذ هم عدة الرسول ص وجنده في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله ومن حول الرسالة والدين والعقيدة الجديدة أي مستوى هذا من النظافة والعدالة والتسامي ثم أي كلام يمكن أن يرتفع ليصف هذا المستوى وكل كلام وكل تعليق وكل تعقيب يتهاوى دون هذه القمة السامقة ; التي لا يبلغها البشر وحدهم بل لا يعرفها البشر وحدهم إلا أن يقادوا بمنهج الله إلى هذا الأفق العلوي الكريم الوضيء والقصة التي رويت من عدة مصادر في سبب نزول هذه الآيات أن نفرا من الانصار قتادة بن النعمان وعمه رفاعة غزوا مع رسول الله ص في بعض غزواته فسرقت درع لأحدهم رفاعة فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من أهل بيت يقال لهم بنو أبيرق فأتى صاحب الدرع رسول الله ص فقال إن طعمة بن أبيرق سرق درعي وفي رواية إنه بشير بن أبيرق وفي هذه الرواية أن بشيرا هذا كان منافقا يقول الشعر في ذم الصحابة وينسبه لبعض العرب فلما رأى السارق ذلك عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل يهودي اسمه زيد بن السمين وقال لنفر من عشيرته إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده فانطلقوا إلى رسول الله ص فقالوا يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن الذي سرق الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك ولما عرف رسول الله ص أن الدرع وجدت في بيت اليهودي قام فبرأ ابن أبيرق وعذره على رؤوس الناس وكان أهله قد قالوا للنبي ص قبل ظهور الدرع في بيت اليهودي إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت قال قتادة فأتيت رسول الله ص فكلمته فقال < عمدت الى إهل بيت يذكر منهم إسلام وصلاح وترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة > قال فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله ص في ذلك فأتاني عمي رفاعة فقال يا ابن أخي ما صنعت فأخبرته بما قال لي رسول الله ص فقال الله المستعان فلم نلبث أن نزلت إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا أي بني أبيرق وخصيما أي محاميا ومدافعا ومجادلا عنهم واستغفر الله أي مما قلت لقتادة إن الله كان غفورا رحيمًا ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إلى قوله تعالى رحيمًا أي لو استغفروا الله لغفر لهم ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه إلى قوله إثما مبينًا ولولا فضل الله عليك ورحمته إلى قوله فسوف نؤتيه أجرا عظيما فلما نزل القرآن أتى رسول الله ص بالسلاح فرده إلى رفاعة قال قتادة لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد عمي أو عشي في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا فلما أتيته بالسلاح قال يا ابن أخي هي في سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحا فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فأنزل الله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا إن المسألة لم تكن مجرد تبرئة برى ء تامرت عليه عصبة لتوقعه في الاتهام وإن كانت تبرئة بريء أمرا هائلا ثقيل الوزن في ميزان الله إنما كانت أكبر من ذلك كانت هي إقامة الميزان الذي لا يميل مع الهوى ولا مع العصبية ولا يتأرجح مع المودة والشنآن أيا كانت الملابسات والأحوال وكانت المسألة هي تطهير هذا المجتمع الجديد ; وعلاج عناصر الضعف البشري فيه مع علاج رواسب الجاهلية والعصبية في كل صورها حتى في صورة العقيدة إذا تعلق الأمر بإقامة العدل بين الناس وإقامة هذا المجتمع الجديد الفريد في تاريخ البشرية على القاعدة الطيبة النظيفة الصلبة المتينة التي لا تدنسها شوائب الهوى والمصلحة والعصبية والتي لا تترجرج مع الأهواء والميول والشهوات ولقد كان هناك أكثر من سبب للإغضاء عن الحادث أو عدم التشديد فيه والتنديد به وكشفه هكذا لجميع الأبصار بل فضحه بين الناس على هذا النحو العنيف المكشوف كان هناك أكثر من سبب لو كانت الاعتبارات الأرضية هي التي تتحكم وتحكم ولو كانت موازين البشر ومقاييسهم هي التي يرجع إليها هذا المنهج كان هناك سبب واضح عريض أن هذا المتهم يهودي من يهود يهود التي لا تدع سهما مسموما تملكه إلا أطلقته في حرب الإسلام وأهله يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين في هذه الحقبة ويشاء الله أن يكون ذلك في كل حقبة يهود التي لا تعرف حقا ولا عدلا ولا نصفة ولا تقيم اعتبارا لقيمة واحدة من قيم الأخلاق في التعامل مع المسلمين على الإطلاق