إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته.
وبعد: لا تنتصر الأمة ولا تزدهر إلا إذا وقع تغيير جذري في كيانها ونفوس أفرادها، ولا تنهزم أمة أو تزول إلا حين تتحول نفسياتها واهتماماتها، فتنحدر من الأعلى إلى الأدنى، فهذه سنة الله -عز وجل- في عباده، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
ومن يتتبع سنة الله -عز وجل- في خلقه سيجد النتيجة واضحة ساطعة مطردة، ولقد بينت لنا سورة الأنفال نموذجاً من هذه السنة لفريقين: فريق مؤمن منتصر، وفريق كافر منهزم. فما هي أسباب النصر. وما هي أسباب الهزيمة؟ فريق الكافرين المشركين الذين أذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا، وفي الآخرة عند ربهم أشد وأنكى؛ ذكر الله هؤلاء الكفرة وبيَّن حالتهم وهم يودعون الحياة شر وداع، تتناولهم ملائكة الموت باللطمات والصفعات، وهم يواجهون جزاءهم، قال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ) [الأنفال:50-51].
تعالوا -أيها الأخوة- لنرى ماذا فعل هؤلاء في حياتهم وماذا قدموا، لقد مكثوا أمداً بعيداً وطويلاً يكرهون الحق، ويؤثرون الكبر والعناد، يعيشون لأنفسهم، فما يرجون لله وقاراً، ولا يتخذون عنده مآباً. كانوا في رخاء من العيش لا تشوبه أزمة، وفي أمان لا يعكره قلق، فما شكروا من هذه النعم قليلاً ولا كثيراً.
جاءهم رسول منهم أرجح الناس عقلاً، وأشرفهم نسباً، وأصدقهم لهجة، وأبرهم رحماً، لا ترقى إلى سيرته تهمة، لقبوه هم بالصادق الأمين، ثم قاوموه وطاردوه في صلف وكبر غريب.
والإنسان السوي إذا اشتبهت عليه الأمور طلب من الله أن يهديه إلى الصواب، أما هؤلاء فقد أبغضوا الحق، وكرهوا النزول على حكمه، وقالوا مكابرين رب السماوات والأرضين: (... اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال:32].
وقد لقي دعاؤهم بعض الإجابة، فلما التقوا المسلمين في بدر حل بهم الخزي الرهيب، وتبخر السراب الذي كانوا يعيشون في خداعه، فسقطوا بين قتيل وأسير.
لقد قاوم المشركون النور والهداية التي امتن الله بها على عباده، قاوموه بكل ما لديهم من جبروت، واستماتوا لكي يبقى ليل الوثنية مخيماً على جزيرة العرب، وتبقى الخرافات تسرح وتمرح في المشارق والمغارب، الشيطان سول لهم وأملى لهم، إذ ركبوا رؤوسهم حتى آخر لحظة، لقد كانت الفرصة أمامهم متاحة ليُسلِموا ويَسلَموا، ولكن الكفر والعناد والغطرسة والكبر الذي ملأ نفوسهم حال بينهم وبين السعادة.
انظروا إلى موقف أبي جهل، ذاك الطاغية المعاند المكابر، لقد كان بإمكانه أن يعود بقومه من أرض بدر ما دامت القافلة التي خرجوا لإنقاذها قد نجت، غير أن مشاعر الكبرياء والغرور هاجت في دمه وعروقه فقال: لا نعود حتى ننحر الجزور، ونشرب الخمور، وتغني لنا القيان ويسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً!.
لقد كان حريصاً على إذلال الإسلام وأهله في مهجرهم الجديد، إن هذا القصد هو الذي ذبحه، وقاد قومه إلى المأساة، وإلى الخزي والبوار؛ هذه الأخلاقيات والمسالك إذا بثتها أمة يهلكها الله -عز وجل- ويدمرها؛ ولهذا فإن الله -عز وجل- يحذر المؤمنين من أن يسلكوا مسالكهم، قال تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [الأنفال:47].
ولنترك فريق الكافرين وما آل إليه حالهم من العذاب والنكال، ونلق نظرة أخرى على الفريق المؤمن، لننظر كيف كان يفعل، وما هي الأسباب التي أخذ بها، فجاء الخير، والعزة، والسعادة، والنصر، والتمكين.
لقد عاش المؤمنون بقيادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل الهجرة وبعدها يؤمنون بربهم وحده لا شريك له، يحترمون دينهم، ويقدمون مطالبه على رغبات نفوسهم، يحملون في الحياة رسالتهم العالمية، ويرفعون راية التوحيد في ثبات ويقين، دون شك ولا وجل؛ ولقد كان خصوم الإسلام يستكثرون على المؤمنين حق الحياة كما يريدون، بل كانوا يروِّعونهم في الحرم الآمن، ويرغمونهم على النزوح هنا وهناك.
لكن الله جل جلاله اطلع على قلوبهم فعلم صدقهم فكافأهم مكافأة سخية كريمة لم تخطر لهم على بال، حيث كتب الله لهم النصر والتمكين والسيادة؛ قال الله -عز وجل- ممتناً على المؤمنين بالنصر والظفر والعزة والتمكين الذي نالوه على الرغم من قلة عددهم وعدتهم وكثرة أعدائهم: (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال:26].
نعم، على المؤمنين أن يدركوا دائماً وأبداً أنهم ليسوا وحدهم في المعركة التي يواجهون بها أعداء الله، إن الله معهم جلت قدرته، يرعاهم ويؤويهم وينصرهم ويرزقهم، فلا خوف إذاً ولا قلق، فسنة الله تعالى مع أوليائه أنه معهم، يتولاهم بنصره وتأييده في كل زمان ومكان، ففي معركة بدر كانت عوامل النصر الظاهرية والدلائل الواقعية في صف المشركين، وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف المؤمنين، حتى قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: (... غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ...) [الأنفال:49]؛ لأن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة، فهم يرون ظواهر الأمور المادية ولا يرون إلى مواطنها؛ لأنهم لم يؤمنوا بالله، أو يستشعروا عظمته وقدرته جل وعلا. فهم لذلك يظنون المسلمين مخدوعين في موقفهم، مغرورين بدينهم، واقعين في الهلكة بتعرضهم لجحافل المشركين التي يرونها.
إن المؤمنين بالله -عز وجل- حق الإيمان يأخذون بالأسباب، ويستعدون، ولكنهم يوقنون -مع ذلك- بأن الأمر كله لله، وأنَّ نواصِي الخَلق بيده، فهم يتوكلون عليه، ويفوضون الأمر إليه: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال:49].
وما أشبه الليلة بالبارحة! لقد تجمع الكفر والوثنية لمواجهة الرسول والمؤمنين، فكانت المعركة بين القلة المؤمنة والكثرة الكافرة، ووقف المنافقون والذين في قلوبهم مرض يتفرجون على المعركة مؤيدين للكافرين، ساخرين من المؤمنين؛ واليوم تتكالب قوى الكفر والإلحاد العالمي بقيادة اليهود وأمريكا لتدمير الإسلام والمسلمين، ويقف معها المنافقون والذين في قلوبهم مرض وجهاً لوجه في مواجهة القلة المؤمنة التي تكفر بالطاغوت وتؤمن بالله، وتستعصي على الواقع، وتواجه كل القوى الكافرة الملحدة، معتصمة بالله، متوكلة عليه وحده سبحانه وتعالى.
إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يعرفون لهذا الموقف الإيماني الثابت الشامخ الذي يقفه المؤمنون مبرراً لهذا التهور -كما يسمونه-، وللإلقاء بالنفس إلى التهلكة، مَن يستطيع أن يواجه أمريكا وإسرائيل؟ إنهم يحسبون الحياة كلها -بما فيها الإيمان والعقيدة والدين- صفقة في سوق التجارة، إن كانت ظاهرة الربح أقدموا عليها، فأما إذا كان الخطر فالسلامة أولى، إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن، ولا يزنون الأشياء بميزان الإيمان، إن هذه المعركة التي يخوضها المؤمن صفقة رابحة دائماً في حسه وميزانه، فهي مؤدية إلى إحدى الحسنيين: النصر والغلبة، أو الشهادة والجنة.
ثم إن حساب القوى لدى المؤمنين يختلف عن حسابات الكافرين والمنافقين، فهناك الله القادر المنتقم الجبار القوي العزيز، وهذا ما لا يدخل في حساب المنافقين والذين أشركوا، ومَن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم، لا تغالب قوته، ولا يُهزم جنده، (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات:171-173].
فتن وأهواء تعصف بالناس، وحروب، ومحن، واختلاف، وأمراض، وزلازل تهز أرضنا هذه هزاً، وكأنني بهذه الأمور والحوادث تقول للناس: لا مقام لكم في هذه الدار، وليست إقامتكم بها إلا يسيراً، فاستعدوا للرحيل!.
لهذا فإن الله -عز وجل- يدعونا إلى المسارعة والمبادرة في فعل الخير، واغتنام الوقت في الإكثار من عمل الصالحات، كما قال سبحانه: (...فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ...) [البقرة:148]، وقال: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133]، وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حاثاً أمته على المسارعة والمبادرة في فعل الخير والعمل الصالح: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا".
وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً؟ أو غنى مطغياً؟ أو مرضاً مفسداً؟ أو هرماً مفنداً؟ أو موتاً مجهزاً؟ أو الدجال؟ فشر غائب ينتظر، أو الساعة؟ فالساعة أدهى وأمرّ".
بادروا -أيها الناس- وسارعوا إلى عمل الخير والإكثار من الصالحات، تزودوا لآخرتكم قبل أن تنزل بكم واحدة من هذه السبع. ماذا تنتظرون؟ وماذا تأملون؟ هل تنتظرون إلا فقراً منسياً ينسيكم كل شيء ولا تفكرون سوى في الغلاء، والجرعات، وزيادات الأسعار، وقلة الأعمال، وكساد التجارات، وانهيار العملة؟ لقد تعلق الناس في بلادنا بالنفط وعولوا عليه كثيراً، وظنوا أنه سيغنيهم ويسد حاجتهم، نسوا الله فنسيهم، فما ازدادوا بظهور النفط إلا فقراً وحاجة. ألا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له.
ماذا تنتظرون أيها الناس؟ هل تنتظرون غنى مطغياً، يُطغي ويُنسي؟ وتدلفون منه إلى البطر والترف، وتشتغلون بجمع المال وتكثيره، وتنسون الله والدار الآخرة، وتبخلون وتمنعون حق الله في أموالكم.
ماذا تنتظرون؟ مرضاً مفسداً يعطل حركتكم، ويشل قواكم، فلا تستطيعون فعل شيء من أعمال الخير التي تحتاج إلى صحة ونشاط، وإلى سعي وحركة وجهاد.
هل تنتظرون أن يطول بكم العمر حتى يسلمكم إلى التخريف والفند؟ "أو هرماً مفنداً"، ينتكس الإنسان فيه ويعود كالطفل الذي لا يعقل ولا يدرك، لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً.
ماذا ننتظر من دنيانا هذه التي نرى الموت فيها زائراً لنا يحصد الناس حصداً، وهم لا يرغبون، في ذلك، وهم كارهون، "أو موتاً مجهزاً"، أي سريعاً وبدون استئذان أو مقدمات.
حَتَّى مَتَى وَإِلى مَتَى نَتَوانَى *** وأظُنُّ هَذا كُلَّه نِسْيَانَا
والموتُ يَطْلُبُنَا حَثِيثَاً مُسْرِعَاً *** إِنْ لَمْ يَزُرْنَا بُكْرَةً مَسَّانا
إنَّا لَنُوعَظُ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً *** وكَأنَّمَا يَعْنِي بِذَاكَ سِوَانَا
غَلَبَ اليَقِينُ عَلَى التَّشَكُّكِ في الرَّدَى *** حتَّى كَأنِّي قَدْ أراهُ عَيَانَا
يا مَنْ يَصِيرُ غَدَاً إلى دارِ البِلَى *** ويُفَارِقُ الإخْوَانَ والخلَّانا
إنَّ الأماكنَ في المــَعَادِ عزيزةٌ *** فاختَرْ لِنَفْسِكَ -إنْ عَقِلْتَ- مكانا
ماذا ننتظر، هل ننتظر الدجال؟ فشر غائب ينتظر. أو الساعة؟ والساعة أدهى وأمر.
يا أيها الناس تنبهوا من غفلتكم، واعملوا لآخرتكم، وتزودوا بالتقوى والعمل الصالح، فإن خير الزاد التقوى.