في منتصف هذا الأسبوع مررت بالمستشفى (( الجامعي )) بمدينة جدة..
كنت أنوي زيارة أحد الأقارب العاملين هناك.. وذلك لعرض بعض التقارير الطبية ( لعيناي ) والتي أعاني منها كثيراً في الأونة الأخيرة وأخذ نصيحته في العلاج..
بعد إنتهاء مراجعتي عنده.. طلب مني الذهاب لصالة الإنتظار الموجودة عند مدخل المستشفى لحين الإنتهاء من بعض أعماله الخاصة .. والخروج معي لتناول الغداء في أحد المطاعم.. نزلت للصالة وجلست في إحدى الجلسات..
كانت هذه الصالة عبارة عن ساحة كبيرة ذات سقف مرتفع جداً جداً وملفت للإنتباه.. يطل على هذه الصالة أدوار المستشفى بالكامل.. الصالة عبارة عن جلسات دائرية بعضها مفتوح والآخر شبه مغلق .. لكن الكل يشاهد الآخر في هذه الصالة ..
أثناء إنتظاري هناك .. كانت هنالك إمرأتان تجلسان في الجلسة المقابلة لي يبتعدان عن بعضهما البعض أمتار قلائل.. الأولى كانت إمرأة كبيرة في السن نوعاً ما.. لايظهر منها إلا سواد عينيها فقط وبطريقة محافظة جداً..
والأخرى شابة في منتصف العشرينيات من العمر.. كاشفة الوجه تضع قدماً على الأخرى.. ويبدو أنها إحدى العاملات اللاتي يعملن في نفس المستشفى من طريقة لباسها..
كانت الفتاة مشغولة بجوالها وإتصالاتها وضحكاتها المتواصلة.. وكان جوالها لايتوقف عن الرنين أبداً.. والعجيب أن غالب الإتصالات لايتجاوز مدته الدقيقة الواحدة..!
فجأة.. قامت المرأة الأولى.. وتوجهت إلى هذه الشابة وبها عرج بسيط من آثار التقدم بالعمر.. وجلست بجوارها ومالت بجسدها تجاهها.. وأخذت تتحدث معها بهدوء شديد.. وبصوت غير مسموع أبداً.. لم تغير الشابة من جلستها أبداً.. على الرغم من المرأة التي أمامها كبيرة في السن.. توقعت أن هذه المرأة تريد نصحها على لبسها وهيئتها..
وبصدق.. فرحت كثيراً في داخلي ودعوت لها من قلب..
كانت المرأة تتحدث مع الفتاة.. بينما كانت الفتاة تهز رأسها بلغة النفى والرفض ..!! وعلى الرغم من ذلك كانت المرأة تواصل الحديث معها وكأنني سمعت الفتاة الشابة تقول لها بصوت مسموع (( معليش .. سامحيني ))
كان الرد مربكاً بالنسبة لي.. توقعت أنها نعتذر منها عن قبول النصيحة..!!!!!
قامت المرأة فوراً من عندها وعادت لمكانها.. وماهي إلا ثواني إلا والشابة قامت متذمرة من الجلسة.. وخرجت من بوابة المستشفى بينما بقيت المرأة في مكانها.. كان الفضول ينتابني حول الموضوع الذي دار بينهما..!!
وزاد الأمر فضولاً هو تصرف المرأة المرتبك.. فبدأت تلتفت يمنة ويسرة وبلا توقف وكأن لديها شيئاً ما.. وبدأت بالإتصال من جوالها وبطريقة عصبية.. كانت إمارات التوتر بادية عليها بوضوح.. وكأنها واقعة في مشكلة..!!
نظرت المرأة إلى إستقبال الأمن فوجدت شابة على ( الكاونتر ) لايختلف منظرها كثيراً عن الفتاة الأولى.. فتوجهت لها وهي تتحامل على قدمها العرجاء..!!
وبدأت تتحدث معها أيضاً بهدوء.. ولكن تلك الفتاة على الرغم من بعدها عني إلا أنني سمعتها وبصوت عالي ترد عليها : سامحيني ياوالدة .. والله ماعندي... !!!!!!
عادت المرأة في مكانها.. وكأنني أشعر بأنها على وشك الإنفجار .. كانت إمرأة كبيرة في السن.. ويتضح بأنها غير متسولة أبداً من طريقة لبسها وجوالها وشنطتها النظيفة..
شعرت بأنها تحتاج أمراً ما.. ولم تتمكن من الإفصاح عنه.. وبعد تردد كبير.. قمت من مكاني.. وتوجهت لها مباشرة.. وقلت لها : ياوالدة إعتبريني مثل ولدك.. تحتاجين شي ؟؟
نظرت إلي مرتبكة ولم تجب... فأعدت عليها كلامي من جديد ببطء حتى تستوعب عباراتي.. فقالت بخجل : ياولدي أنا ودي آخذ منك (( ريالين فقط )) لأن عندي التحليل الثاني للسكر ولابد أكون فاطرة ..! وزوجي الله يسامحه في البدروم تحت له ساعتين وماعنده إرسال للجوال.. وإذا جا بيعطيك حسابك كامل..!!!
والله ثم والله ثم والله.. صعقت من هذا الطلب.. لاأدري لماذا تذكرت وقاحة الفتاتين اللتين طلبتهما قبل قليل ورفضا هذا الطلب التافه الحقير ..!!!!
أخرجت محفظتي فوجدت ورقة عشرين ريالاً أعطيتها إياها.. رفضت المبلغ وطلبت ريالين فقط لاغير.. لكني أفهمتها بأن هذا هو المتوفر عندي.. أخذت المبلغ وذهبت للكافتيريا وهي تعرج على قدمها .. وبعد دقيقيتن عادت وأخذت تأكل الوجبة في نفس الصالة وكأنها تريد التأكيد لي بأنها صادقة في طلبها..!!!
وبعد دقائق.. حضر رجل في الستين من العمر ذو لحية يكسوها الوقار.. وله هيبة كبيرة.. وتوجه لها مباشرة وبيده ملفات وأوراق كثيرة وآثار الإجهاد بادية عليه.. وفجأة حينما رأته.. إقتربت منه وغرقت في نوبة من البكاء وهي غاضبة منه وتقول:
الله يسامحك.. خليتني (( شحاته )) قدام الناس.. وينك من أول ماتسأل.. كان يقف مذهولاً في صمت من الموقف المحرج.. ومن خطأه الفادح الذي لم يستوعبه من خلال تركها طيلة هذه الفترة.. وبعد أن هدأت من نوبتها.. إلتفت الرجل تجاهي وكأنها أخبرته عني..
فتوجه لي وشكرني بحرارة من قلبه.. ويتأسف على ماحدث والخجل يكسوه.. وأخرج محفظته.. حلفت عليه.. وإذا به يقسم أيماناً مغلظة وبصوت عالي بأن آخذ المبلغ.. فناولني (( 200 )) ريال وذهب..
السؤال..
مارأيكم في تصرف الفتاتين .. وهل بدأت المروءة تذوب في أخلاقيات المجتمع ؟؟ وهل مكافحة التسول مبرراً لمنع التبرع بريالين فقط لبعض المحتاجين الذين هم في غير حاجة أصلاً ؟؟
شيء مؤسف..!
منقول للأمانه