من أسرارِ الصّلاة
حامد بن عبدالله العلي
لم أر في كلام العلماء أفضـل من تلخيص الإمـام ابن القيم رحمه الله لسرّ أسرار الصلاة إذ قال: ( للعبد بين يدي الله موقفان ، موقف بين يديه في الصلاة ، وموقف بين يديه يوم لقائه ، فمن قام بحق الموقف الأول ، هـُوِّن عليه الموقف الآخر ، ومن استهان بهذا الموقف ، ولم يوفـّه حقه ، شُّـدّد عليـه ذلك الموقــف ، قال تعالـى : ( ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا ، إنَّ هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلا ).
وقال في كتابه العظيم أسرار الصلاة : ( فاعلم أنَّه لا ريب أنَّ الصلاة قـرّة عُيون المحبّين ، و لذّة أرواح الموحدين ، و بستان العابدين و لذّة نفوس الخاشعين ، و محكّ أحوال الصادقين ، و ميزان أحوال السالكيـن ، و هي رحمةُ الله المهداة إلى عباده المؤمنين )
وقال أيضا : ( ولما امتحن الله سبحانه عبده بالشهوة ، و أشباهها من داخل فيه ، و خارج عنه ، اقتضت تمام رحمته به ، و إحسانه إليه ، أن هيّـأ له مأدبة ، قد جمعت من جميع الألوان ، و التحف ، و الخلع ، و العطايا ، و دعاه إليها كل يوم خمس مرَّات ، و جعل في كلّ لون من ألوان تلك المأدبة ، لذّة ، و منفعة ، و مصلحة ، ووقار لهذا العبد الذي قد دعاه إلى تلك المأدبة ، ليست في اللون الآخر ، لتكمل لذّة عبده في كلّ من ألوان العبودية ، و يُكرمه بكلِّ صنفٍ من أصناف الكرامة ، و يكون كلّ فعل من أفعال تلك العبودية ، مُكفّرا لمذموم كان يكرهه بإزائه ، و يثيبه عليه نوراً خاصا ، فإنَّ الصلاة نورٌ ، و قوّة في قلبه ، و جوارحه ، و سعة في رزقه ، و محبة في العباد له ..
فيصدر المدعو من هذه المأدبة ، و قد أشبعه ، و أرواه ، و خلع عليه بخلع القبول ، و أغناه ، و ذلك أنَّ قلبه كان قبل أن يأتي هذه المأدبة ، قد ناله من الجوع ، و القحط و الجذب ، و الظمأ ، و العري ، والسقم ما ناله ، فصدر من عنده ، و قد أغناه ، و أعطاه من الطعام ، و الشراب ، و اللباس ، و التحف ما يغنيه )
وقال رحمه الله : ( و كان سرُّ الصلاة و لُبـُّها إقبال القلب فيها على الله ، و حضوره بكلِّيته بين يديه ، فإذا لم يقبل عليه ، و اشتغل بغيره ، و لهى بحديث نفسه ، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرا من خطاياه ، وزللـه ، مستمطراً سحائب جوده ، و كرمه ، ورحمته ، مستطعما له ما يُقيت قلبه ، ليقوى به على القيام في خدمته ، فلمَّا وصل إلى باب الملك ، و لم يبق إلاّ مناجته له ، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينا ، وشمالاً ، أو ولاّه ظهره ، و اشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك ، و أقلّه عنده قدراً عليه ، فآثره عليه ، و صيَّره قلبة قلبه ، و محلَّ توجهه ، و موضع سرِّه) أ.هـ.
والصلاة هي زكاة الوقت ، فكما أنَّ للمال زكاة ، فللعمـر زكاة ، ولهذا كانـت الصلاة هي سـرُّ بركة العمر ، وكلَّما كان العبد معظِّمـا لها ، كانت بركة عمـره أعظـم من غيـره ، وعمله فيه كذلك .
ولهذا لاينظر الله تعالى إلى أي عمل من العبد يوم القيامة قبل نظره إلى الصلاة ، فإن صلحت صلح عمله ، وإن فسدت فسد عملُه ، كما لايقبل الصدقة ممن منع الزكاة .
ولهذا كانت هـي قرُّة عين النبـيِّ صلـى الله عليه وآلـه وسلـم ، وكان يقــول لبلال ( أ رحنا بها يا بلال ) .
هذا .. ومن تأمـَّل في أسرار هذه العبادة العظيمة ، التي هي أعظم العبادات بعد الشهادتين ، وهي ركن الإسلام الأعظم ، لأنهّـا اجتمعت فيها كلُّ معاني العبودية ، من تأمـّل في أسرارها ، واستحضرها أثناء أداء الصلاة ، صارت قـرّة عينه ، وراحـة نفسه ، وغاية أماني روحه.
وسرُّ أسرارها أنها لقاء العبـد بربِّه ، وإتصاله بخالقه ، ولهذا ورد في الحديث أنَّ المصلي يناجي ربه ، وورد أن ( الله ينصب وجهه لوجه عبده في الصلاة مالم يلتفت ) وأنه سبحانه يجيب المصلـّي في قراءة الفاتحة كما سيأتي.
وأوّل أسرارها ، أنَّ الإستعداد لها بالتطهّر من الذنوب بالوضوء فالشهادتين بعده ، لتفتح للعبد أبواب الجنة الثمانية ، فيستقبل هذا الإكرام الإلهي العظيم ، بأعظم عبادة وهي الصلاة.
ثم يكبـِّر معلنـاً خلع كلِّ ما سوى الله تعالى ، وإلقاءه وراءه ظهره ، إذ لايستحق أي شيءٍ حتـّى أن يخطر على باله ، وهو يقف هذا المقام العظيم بين يدي ملك الملوك .
ثم لايبدأ بشيء وهو يقف بين يديْ سيّده ، قبل البراءة من ذنوبه ، وطلب المغفرة من ربّه ، إذ كانت الذنوب هي الحائل بين العبد ، وبين كـلّ خيرٍ ، كما في حديث الإستفتاح ( اللهم باعد بيني وبين خطاياي ..الحديث ) .
أو يسبّح الله ، وينزّهه ، ويحمدُه ، ويُثني عليه بأفضل الثناء في الإستفتـاح الآخــَـر ( سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمـك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك ).
ثم لمـَّا كان الشيطان أحرص ما يكون على أن يحـول بين العبد ، وبين الإنتفاع من هذا الموقف الجليل الذي هو غذاء الروح ، ودواؤُها ، ورواء النفس ، وشفاؤُها ، أُمـر المصلّي أن يستعيذ في هذا المقام العظيم بالله من الشيطان الرجيـم ، من نفخه ، ونفثه ، ونزغه .
ثم أوّل شيءٍ يبدأ بـه بعد البسملة ، أن يقول : الحمد لله رب العالمين ،
فيحمد الله تعالى الذي أذن له أن يقف بين يديه ، وهداه إلى هذا الحال ، ورفعه إلى هذا المآل ، فكم من شقيِّ قـد حُرم من هذا الدخول ، وأُبعـد عن هذا الوصول.
فإذا قالها : أجابه ربُّه : حمدنـي عبـدي ، ثم إذا قال : الرحمن الرحيم ، أجابه ربُّه : أثنـي عليّ عبدي ، ثم إذا قال : مالك يوم الدين ، قال الله تعالى : مجّدني ، فإذا قال : إياك نعبد ، وإياك نستعين ، قال الله تعالى: هذه بيني ، وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : إهدنا الصراط المستقيم ، قال الله تعالى : هذه لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، وأما بقيّة هذه السورة الجليلة ، فهو وصف لصراط الهدى ، ولأهله .
ولاريب أنَّ هذا الدعاء : إهدنا الصراط المستقيم ، هو أنفع دعاء مختصر يدعو به العبد مطلقا ، ذلك أنَّه يجمع له الخير كلَّه ، ويصرف عنه الشرَّ كلّه .
ثم بعدما يقرأ ما تيسـَّر من القرآن ، قانتـاً لله تعالى ، واقفاً بين يدي ربّه موقف العبد الذليل ، يتلو كلام الله ، ويملأ قلبه من هذا الينبوع الإلهـي ، فيطهّر روحه به ، ويخرج منه وساوس الشيطان ، ورجس الذنوب ،
يفعل ذلك ليتهيأ بعده ، لينال أعظم شرف يناله مخلوق في الوجـود .
وهو أن يُشِّرفـه الله بالإذن له بالركوع بين يدي ملك الملوك ، فيركع معظّماً لسيده ، ويسبّحه تسبيحا مقرونا بتعظيمه .
ثم يرتفع حامداً ربه على أن فضّله بهذه النعمة العظيمة ، وشرّفـه بهذه المنـّة الجليلة ، ويقول : ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركا فيه ، ملء السموات ،وملء الأرض ، وملء ما بينهما ، وملء ما شئت من شيءٍ بعـد .
ثم بعدما شرفه الله بالركوع ، فحمد الله تعالى عليه ، استحـقّ بالشكر المزيد ، فحينئذٍ يأذن الله تعالى له بالسجـود ، وهو أعظم تقريب للعبد من الله تعالى ، كما في الحديث ( أقرب ما يكون أحدكم من ربه وهو ساجد ) ، وهو أجل مقامات العبودية ، ولهذا لما طلب ذلك الصحابيّ من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرافقه في الجنة ، قال له : أعنّي على نفسك بكثرة السجود ، وفي الحديث : لايسجد العبد لربه سجدة إلاّ رفعه الله بها درجة ، وحطّ عنه بها خطيئة .
فيسجد لربّه مسبّحا له في عُلاه ، ولمـَّا كان الساجد في غاية العبودية ، والذلّ ، ناسب أن يسبَّح الله بإسمه الأعلى ، وليتوسَّل بهذا الإسم ليرفعه الله تعالى ، ويُعلي قدره.
والسجود هو معراج الرفعة عند الله تعالى ، ولهذا ورد في الحديث ( شرف المؤمن قيام الليل ) ، وإنما يرفع الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم على الأوّلين ، والآخرين ، في القيامة ، إثـر سجوده تحت العرش ، فيعلّمه الله محامد ، لم يفتح الله بها على أحدٍ سواه ، فيُعطى بذلك المقام المحمود ، الذي يشرفه به على الخلق أجمعين ، وهم جميعا عليه شاهدين ، وقـد نال هذا الشرف العظيم أيضا بسجوده في ليالي الدنيا ، كما قال تعالى ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك ، عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) وقال تعالى ( وتقلّبك في الساجـدين ) .
ولما كان هذه النعمة الجليلة ، والمنّـة العظيمة ، أعني أن يأذن الله تعالى لعبده الذي هو لاشيء أصلا ، أن يبلغ هذا المبلغ العظيم ، ويصل إلى هذه الحضرة الإلهية الشريفة العليّة ، لما كانت هذه النعمـة لايطيق العبد شكرها ، ناسب أن يستغفر الله تعالى بعدها فيقول : رب اغفر لي ، رب اغفر لي .
أي ربّ اغفر لي تقصيري ، وكيف لي أن أكون بهذا القرب منك ومعي ذنوبي ، وإنـّي مهما فعلت ، فلن أطيق شكر هذا التقريب إليك ، وإذنك لي أن أسجـد بين يديك ، مع كثرة خطاياي ، وعظيم ذنوبي ، وتقصيري .
ولما كان هذا الموطن من الصلاة ، أعني الجلوس بين السجدتين ، قد إستمد جلالته من وقوعه بين أعظم عبوديتين ، أعني السجدتين ، ناسب أيضا أن يدعو بخير الدنيا والآخرة ، ولهذا علم النبي صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة أن يقول في هـذا الموضع : ( رب اغفر لي ، وارحمني ، واهدني ، واجبرني ، وعافني ، وارزقني ) وقال له : إنّ هذه تجمع لك دنياك ، وآخرتك .
وأما تكبيرات الإنتقال ، فسرُّها أنّ حـقّ العبد أن لايتحرّك منه ساكـنٌ ، ولا تطرف له عينٌ ، وهو واقف بين يدي ملك المـلوك ، سيد الأكوان ، ولهذا إذا تحرك من قيامه ليركع ، ناسب أن يجـلّ ربه أن يتحرَّك أيّ حركة بين يديه ، إلاّ بالتعظيم ، والتبجيل ، ولاتكون هذه الحركة إلاّ من القيام الذي هو عبوديـّة القنـوت ، إلى مقام عبودية أجـلّ منه ، وهو الركوع ، ثم إلى السجود أجلّ مقامات العبودية ، أو العودة إلى تكرار هذا الترتـيب .
وبهذه الأفعـال تكون الصلاة قد اكتملت ، ولم يبق إلاّ تكرار هذه العبوديات ، وذلك أنَّ الصلاة مثل المائدة التي تحتوي على غذاء القلب ، وشفاء الروح ، فلا بد من أخذهما شيئـاً بعـد شيء ، وتكرارهما ، حتى يعظم انتفاع الروح بهما .
فيعيد العبد القيام ، والركوع ، والسجود ، كـرّة بعد كـرّة ، وهو واقف بين يدي ربّه ، حتى إذا أدّى كـلّ هذه التحيات لربّه ، تحيـّة القنوت خاشعاً بين يديه ، وتحية الركوع ، وتحية السجود ، وتحية الجلوس ، كما يجلس العبد الذليل .
ناسب أن يجلس بين يدي سيده الجلسة الأخيرة ، فيبدأ بقوله : ( التحيات لله ) أي كلّ التحيات التي مضت منـّي تعظيما لسيّدي ، هي لله تعالى ، وحده لاشريك له ، والصلوات كذلك ، والأعمال الطيبات كلّها ، لك يارب وحدك لاشريك لك ، فأنت سيدي ، ولايستحق العبادة سواك .
فهذه الجلسة التي يجلسها المصلّي في آخر الصلاة ، هي جلسة العبد بين يدي سيّده بعد أداءه أنواع العبوديـّة له ، ولهذا يبـدأ فيها بإلقاء التحيـّة ،
ثم لاينسى حقّ الذي أوصله إلى هذه الحضـرة ، ودلـّه على طريق هذه المكانة العظيمة ، فيسلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم يسلّم على جميع الحاضرين معه ، ( السلام علينا ، وعلى عباد الله الصالحين ) ،
أي على جميع الواقفين موقف العبودية ، في ذلك المشهد العظيم ، في تلك الحضرة الإلهية الشريفة ، العلية ، الجليلة ، العظيمة.
ثم يعود فيصلّي على أشرف من في تلك الحضرة من القائمين بمقامات العبوديّة لربّ العالمين ، وهم محمّد ، وإبراهيم ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وآلهما ، أي من سار على طريقهما ، واتبع نهجهما.
حتى إذا انتهى فلم يبـق إلاّ أن يسأل ربه ليعطيه ، بعد أن قـدّم بين يدي دعاءه ، أشرف العبادات ، وأزكاها ، وأحبّها إلى الله تعالى ، وأعلاها ، جلس مجلس الخاشع الذليل ، وهو يشير بإصبعه السبابة بالتوحيد أعظم العبادات
،
فحينـئذٍ يدعو ربـّه ، ويسأله ، فقمـِنٌ أن يستجيب له ربه .
،
ومن أجل هذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم إنّ هذا الدعاء أسمع الدعاء عند الله تعالى.
وعلم أصحابه الدعاء بأعظم ما ينفعهم ، وهو الإستعاذة بالله من عذاب القبر ، وعذاب النار ، وفتنة المحيا والممات ، وفتنة المسيح الدجال ، وهذه كما قال ابن القيم هي أعظم الآلام و الشرور على الإطلاق ، وأعظم أسبابها ، فمن وقاه الله تعالى إياها فقد فاز الفوز المبين .
حتى إذا أذِن الله تعالى لعبده بالإنصراف ، لم ينصرف إلاَّ بأزكى تحية ، وأتمّها ، وأفضلها ، وأكملها ، وهي السلام ، والرحمة ، والبركات من الله تعالى ، فيلقيها على نفسه وعلى من في تلك الحضرة الشريفة ، ثم ينصرف من صلاته .
ثم لمـّا كان مـا فعلـه العبد فيما مضى من التكبير حتى التسليم ، أعظم ما يُتعبَّد الله تعالى به على الإطلاق ، فإنَّ جائزته أن ينفتـل من صلاته ، كيوم ولدته أمه ، إذا لم يحدث نفسه فيها ، كما صح في الحديث .
وأما من سها فيها فسيعطيه ربه من ثوابها على قدر ما حضر قلبه .
وقد كانت الصلاة أوّل ما فرضت خمسين صلاة ، تستغرق ثلثَ الوقت من اليوم والليلة ، وثلثٌ للنوم ، والراحة ، والغذاء ، وثلثٌ لعمل الدنيا .
ذلك أنّ الله تعالى إنما خلق الجن ، والإنس لعبادته أصلا ، فحقّ عليهـم أن لاينشغلوا عن عبادته إلاّ بما لابد منـه .
غير أنّ الله تعالى خفّف علينا ، حتّى جعلها خمس صلوات في اليوم والليلة ، وكان الأصل فيها أنّ الأوقات بينها متقاربة ، غير أنّ صلاة الظهر أُخـرت رأفة بالعباد ، لما فـي وقت الصبح من طلب المعاش ، وقـد قُـدّمت العشاء ، رأفـةً بهم لما في وقت الليل من طلب الراحة.
وجعلت خمس صلوات ، ليكون العبد غادياً ، رائحاً ، إلى عبادة ربـّه يومـه كلَّه ، فكلَّما أشغلته الدنيا فنسي ، عاد فناجى ربـَّه ، خمس مرات في اليوم والليلة .
وبهذا يتحقّق من العبد أن لاأحد أحبَّ إليه من الله تعالى ، إذْ لاشيء آخـر في الحيـاة ، يحضـر العبـد بين يديه خمس مرات في يومه ، وليلته ، فيقف بين يديه ، يسبِّح بإسمه ، ويلهج بذكره ، ويتعلق به قلبه ، وتخشع له جوارحه ، إلاّ الله تعالى .
فكلّما غفل عنه ، عاد إليه بسبَّحه ، وعظَّمـه ، وكلّما نسي ، فزع إليه فذكره ، وكلّما عصاه جاءه مستغفرا ، تائبا ، نادما .
غير أنه سبحانه قابل هذا التخفيف من خمسين إلى خمس ، بأن عظـَّم خطرها ، فجعلها هي الحـدّ الفاصل بين الإيمان ، والكفر ، وخصّها الله تعالى من بين كلّ التكاليف ، فلم ينزلها مع جبريل ، بل دعـا محمّداً صلى الله عليه وسلم إليـه ، حتى إذا اقترب من حجاب العـزّة ، الذي احتجب به ربُّ العزة ، ناوله هذا التكليف العظيم ، وأمره أن يبلّغـه أمَّته.
ولما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم استلمها من قرب ذلك النور العلويّ ، كان للصلاة خاصيّة ليست في غيرها من العبادات ، فكانت هي نور القلب ، وضياؤه ، وفي الحديث ( الصلاة نور ) ،
ولهذا كان السلف الصالحون يكثرون من صلاة النافلـة ، فيصلّون منها مئات الركعات في اليوم ، والليلة ، استكثارا من هذا النور الإلهـي في قلوبهـم ، وطلبا لفضائل الصلاة العظيـمة.
،
ولم يكونوا يعظمّون شيئاً من الدين كتعظيمهم الصلاة ، كيف لا ؟ وقد سمعوا قوله تعالى : ( وإنها لكبيرة إلاّ على الخاشعـين ) ، وتقديم الله تعالى لها في كلِّ القرآن على كلّ ما شرعه .
،
وأن عليها مدار الإسلام كلُّه ، حتى إنَّ نظامه السياسي أقيم على الصلاة ، فجُعل الخروج على الحكام متوقفاً على تركهم الصلاة ، كما في الحديث عندما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكام الجور ، قال الصحابة : أفلا ننباذهم بالسيوف ، قال : ( لا ما أقاموا فيكم الصلاة ).
وفيما يلي نماذج من عناية السلف بالصلاة :
،
فعن محمد بن زيد: أن ابن عمر كان له مهراس فيه ماء , فيصلي فيه ماقدر له , ثم يصير إلى الفراش يغفي إغفاءة الطائر , ثم يقوم , فيتوضأ ويصلي , يفعل ذلك في الليل أربع مرات ، أو خمسة.
وقال بكر بن عبد الله: يا ابن آدم إذا شئت أن تدخل على مولاك بغير إذن ، فتكلمه بلا ترجمان دخلت ، قيل: وكيف ذلك ? قال: تسبغ وضوءك وتدخل محرابك فإذا أنت قد دخلت على مولاك بغير إذن ، فتكلمه بغير ترجمان.
وكان سعيد التنوخي إذا صلى لم تنقطع الدموع من خديه على لحيته .
وقيل لخلف بن أيوب: ألا يؤذيك الذباب في صلاتك فتطردها قال: لا أعود نفسي شيئاً ، يفسد على صلاتي ، قيل له: وكيف تصبر على ذلك? قال: بلغني أن الفساق يصبرون تحت أسواط السلطان ، ليقال فلان صبور ، ويفتخرون بذلك ، فأنا قائم بين يدي ربـّي، أفأتحرك لذبابـة ?
ويروى عن مسلم بن يسار ، أنه كان إذا أراد الصلاة ، قال لأهله: تحدثوا أنتم فإني لست أسمعكم.
ويروى عنه أنه كان يصلي يوماً في جامع البصرة ، فسقطت ناحية من المسجد فاجتمع الناس لذلك فلم يشعر به حتى انصرف من الصلاة.
ويروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ، ويتلون وجهه ، فقيل له: ما لك يا أمير المؤمنين ? فيقول جاء وقت أمانة عرضها الله على السموات ، والأرض ، والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملتها.
ويروى عن علي بن الحسين ، أنه كان إذا توضأ اصفـرّ لونه ، فيقول له أهله : ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء ? فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم ?
ووقع حريق في بيت فيه زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله ، وهو ساجد ، فجعلوا يقولون : يا ابن رسول الله النار ، فما رفع رأسه حتى طفيت ، فقيل له في ذلك فقال :ألهتني عنها النار الأخرى .
وقال إسحاق : ذهبت الصلاة مني وضعفت ، وإني لأصلي فما أقرأ ، وأنا قائم إلاّ بالبقرة ، وآل عمران.
وعن عبدالله بن مسلم بن يسار : إنّ أباه كان إذا صلى كأنه وتدٌ ، لايميل لا هكذا ، ولاهكذا.
وقال الثوري : لو رأيت منصور بن المعتمر يصلي لقلت يموت الساعة.
قال ابن وهب : رأيت سفيان في الحرم بعد المغرب صلى ، ثم سجد سجدةً ، فلم يرجع حتى نودي للعشاء .
وسئل كثير بن عبيد الحمصي عن سبب عدم سهوه في الصلاة قط ، وقد أمّ أهل حمص ستين سنة كاملة ، فقال : ( ما دخلت من باب المسجد قط وفي نفسي غير الله ).
وقال ضمرة بن ربيعة : حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومئة ، فما رأيته مضطجعا في المحمل في ليل ، ولا نهار قط ، كان يصلي ، فإذا غلبه النوم ، استند إلى القتب.
وعن ابن جريج صحبت عطاء ثماني عشرة سنة ، وكان بعد ماكبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مئتي آية من البقرة ، وهو قائم لايزول منه شيء ، ولايتحرك.
ورُوى أنس بن سيرين عن امرأة مسروق قالت : كان مسروق يصلّي حتى تورم قدماه ، فربما جلست أبكي مما أراه يصنع بنفسه
وعن بشير قال : بتُّ عند الربيع ذات ليلة ، فقام يصلي فمر بهذه الآية : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) ، قال : فمكث ليلته حتى أصبح ما يجوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد.
وقال ابن سماعة : كان ورد أبي يوسف في اليوم مائتي ركعة .
وقال عثمان بن أبي العاتكة : علق أبو مسلم سوطاً في المسجد ، فكان يقول : أنا أولى بالسوط من البهائم ، فإذا فتـر ، مشق ساقيه سوطا ، أو سوطين ( أي ضرب بسرعة) . وكان يقول : لو رأيت الجنة عيانا ، أو النـّار عيانا ، ما كان عندي مستزاد.
وعن الحسن أنّ عامراً كان يقول : من أُقرئ ؟ فيأتيه ناس ، فيقرئهم القرآن ، ثم يقوم فيصلي إلى الظهر ، ثم يصلي إلى العصر ، ثم يقرئ الناس إلى المغرب ، ثم يصلي مابين العشائين ، ثم ينصرف إلى منزله ، فيأكل رغيفا ، وينام نومة خفيفة ، ثم يقوم لصلاته ، ثم يتسحر رغيفا ويخرج .
وكان عامر لا يزال يصلي من طلوع الشمس إلى العصر ، فينصرف وقد انتفخت ساقاه فيقول : يا أمارة بالسوء ، إنما خلقت للعبادة .
وقال قتادة : لما احتضر عامر بن عبد قيس بكى ، فقيل مايبكيك ؟ قال : ما أبيك جزعا من الموت ، ولا حرصا على الدنيا ، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر ، وقيام الليل .
عن بكر بن ماعـز قال : أعطي الربيع فرساً ، أو اشترى فرساً بثلاثين ألفاً ، فغزا عليها ، قال : ثم أرسل غلامه يحتشّ ، وقام يصلي ، وربط فرسه ، فجاء الغـلام ، فقال : يا ربيع أين فرسك ؟! قال : سرقت يا يسار ، قـال وأنت تنظر إليهــا ، قال : ( نعم يا يسار أني كنت أناجي ربي عز وجل ، فلم يشغلني عن مناجات ربّي شيء ، اللهمّ إنه سرقني ، ولم أكن لأسرقه ، اللهم إن كان غنياً فاهـده ، وإن كان فقيراً فاغنه ، ثلاث مرات ) .
ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ( قال داود عليه السلام في مناجاته : إلهي من يسكن بيتك ، وممن تتقبل الصلاة ? فأوحى الله إليه : يا داود إنما يسكن بيتي ، وأقبل الصلاة منه ، من تواضع لعظمتي ، وقطع نهاره بذكري ، وكفَّ نفسه عن الشهوات من أجلي ، يطعم الجائع ، ويؤوي الغريب ، ويرحم المصاب ، فذلك الذي يضيء نوره في السموات كالشمس، إن دعاني لبيته ، وإن سألني أعطيته ، أجعل له في الجهل حلماً ، وفي الغفلة ذكراً ، وفي الظلمة نوراً ، وإنما مثله في الناس ، كالفردوس في أعلى الجنان ، لا تيبس أنهارها ، ولا تتغير ثمارها .
وقيل لعامر بن قيس : أما تسهو في صلاتك ؟ قال : أو حديث أحبُّ إلي من القرآن حتى أشتغل به ؟ هيهات ، مناجاة الحبيب تستغرق الإحساس.
وقال وكيع : كان الأعمش قريباً من سبعين سنة ، لم تفته التكبيرة الأولى ، واختلفت إليه قريباً من ستين سنة ، فما رأيته يقضي ركعة واحدة .
ويروى عن حاتم الأصم رضي الله عنه ، أنه سئل عن صلاته ، فقال: إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء ، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه ، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي ، وأجعل الكعبة بين حاجبي ، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني ، والنار عن شمالي ، وملك الموت ورائي ، أظنها آخر صلاتي ، ثم أقوم بين الرجاء ، والخوف ، وأكبر تكبيراً بتحقيق ، وأقرأ قراءة بترتيل ، وأركع ركوعاً بتواضع ، وأسجد سجوداً بتخشّع ، وأقعد على الورك الأيسر ، وأفرش ظهر قدمها وأنصب القدم اليمنى على الإبهام ، وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقبلت مني أم لا?
،
فرضي الله عنهم من سلف صالح أقاموا الدين خير قيام .
***
فإن قلت : فكيف لي أن أصير إلى مثل ما صاروا إليه ، فالجواب أن ابـدأ بقراءة هذا الكلام النوراني ، فإنه يفتح لك أبوابا من الفلاح ، لم تخطر على بالك ، ولم تدر في خيالك .
،
قال ابن القيم رحمه الله : ( اعلم أنَّ القلب إذا خلى من الاهتمام بالدنيا ، والتعلق بما فيها من مال ، أو رياسة ، أو صورة ، وتعلق بالآخرة ، والاهتمام بها ، من تحصيل العدة ، والتأهب للقدوم على الله عز وجل ، فذلك أول فتوحه ، وتباشير فجره ، فعند ذلك يتحرك قلبه لمعرفة ما يرضى به ربه منه ، فيفعله ، ويتقرب به إليه ، وما يسخطه منه ، فيجتنبه ن وهذا عنوان صدق إرادته ، فإنَّ كل من أيقن بلقاء الله ، وأنه سائله عن كلمتين ، يسأل عنهما الأولون ، والآخرون ، ماذا كنتم تعبدون ، وماذا أجبتم المرسلين ، لا بد أن يتنبه لطلب معرفة معبوده ، والطريق الموصلة إليه ، فإذا تمكن في ذلك، فتح له باب الأنس بالخلوة ، والوحدة ، والأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات ، والحركات ، فلا شيء أشوق إليه من ذلك ، فإنها تجمع عليه قوى قلبه ، وإرادته ، وتسد عليه الأبواب التي تفرق همه ، وتشت قلبه ، فيأنس بها ، ويستوحش من الخلق ،
ثم يفتح له باب حلاوة العبادة ، بحيث لا يكاد يشبع منها ، ويجد فيها من اللذة ، والراحة ، أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو ، واللعب ، ونيل الشهوات ، بحيث إنه إذا دخل في الصلاة ، ودّ أن لا يخرج منها ، ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله فلا يشبع منه ، وإذا سمعه هدأ قلبه به ، كما يهدأ الصبي إذا أعطي ما هو شديد المحبة له ، ثم يفتح له باب شهود عظمة الله ، المتكلم به ، وجلاله ، وكمال نعوته ، وصفاته ، وحكمته ، ومعاني خطابه ، بحيث يستغرق قلبه في ذلك حتى يغيب فيه ، ويحسّ بقلبه ، وقد دخل في عالم آخر غير ما الناس فيه) أ.هـ.
اللهم حبب إلينا الإيمان ، وزينه في قلوبنا ، اجعلنا من الراشدين آمين