اعلم أن التنوين في القرآن هو نون ساكنة، تلحق آخر الاسم، تظهر في اللفظ وتسقط في الخط. وأما النون الساكنة فتكون في آخر الكلمة وفي وسطها.
وهذا الفصل ينقسم على خمسة أقسام:
القسم الأول: الإظهار. اعلم أن النون الساكنة والتنوين يظهران عند ستة أحرف من حروف الحلق، وهن: الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء، ونحو من إله ، ينأون ، غثاءً أحوى ، من هاد ، جرف هار ، الأنهار ، من عند ، أنعمت ، جنة عالية ، من حكيم ، غفور حليم ، و انحر ، من غفور ، فسينغضون ، من ماء غير آسن ، من خوف ، والمنخنقة . عليماً خبيراً . والعلة في إظهار ذلك عند هذه الحروف أن النون والغنة بعد مخرجهما عن مخارج حروف الحلق، وإنما يقع الإدغام في أكثر الكلام لتقارب المخارج، فإذا تباعدت وجب الإظهار، الذي هو الأصل. وقد ذكر بعض القراء في كتبهم أن الغنة باقية فيهما، وذكر شيخ الداني، فارس بن أحمد، في مصنف له أن الغنة ساقطة منهما إذا أظهرا، وهو مذهب النحاة، وبه صرحوا في كتبهم، وبه قرأت على كل شيوخي، ما عدا قراءة يزيد والمسيبي.
القسم الثاني: إدغامهما في اللام والراء، إدغاماً كاملاً بللا غنة، نحو من ربكم ، محمد رسول الله ، ومن لم ، و هدىً للمتقين . وعلة ذلك قرب مخرج النون والتنوين من مخرج اللام والراء، لأنهن من حروف طرف اللسان، فتمكن الإدغام وحسن لتقارب المخارج، وذهبت الغنة لأن حق الإدغام ذهاب لفظ الحرف الأول بكليته وتصييره بلفظ الثاني، ولم تقع النون الساكنة قبل اللام والراء في كلمة.
القسم الثالث: إدغامهما في حروف (يومن) إدغاماً غير مستكمل التشديد لبقاء الغنة، وهي بعض الحرف، نحو قوله: مكني ، من نعمة ، حطة نغفر ، من واق ، غشاوة ولهم ، من ماء ، ماءً مباركاً ، فمن يعمل ، وبرق يجعلون . وعلة الإدغام في النون اجتماع المثلين والأول ساكن. وفي الواو والياء أن الغنة التي فيها أشبهت المد واللين اللذين فيهما، فحسن الإدغام لهذه المشابهة. وعلة الإدغام في الميم الاشتراك في الغنة، فتقاربا بهذا، فحسن الإدغام. ولا يجوز إدغام النون الساكنة في الواو والياء إذا اجتمعا في كلمة، نحو دنيا و صنوان لئلا يشبه مضاعف الأصل، نحو (صوان) و (ديان). واختلف أهل الأداء في الغنة التي تظهر مع إدغام التنوين والنون في الميم، هل هي غنتهما أو غنته؟ فذهب ابن كيسان وموافقوه إلى أنها غنة النون. وذهب الداني وغيره إلى أنها غنة الميم. وبه أقول، لأن النون قد زال لفظها بالقلب، وصار مخرجهما من مخرج الميم، فالغنة له.
القسم الرابع: الإقلاب، وقد تقدم الكلام على معناه، فإذا أتى بعد النون الساكنة والتنوين باء قلبت ميما، من غير إدغام، وذلك نحو أن بورك ، أنبئهم ، جدد بيض والغنة ظاهرة في هذا القسم. وعلة ذلك أن الميم مؤاخية للنون في الغمة والجهر، ومشاركة للباء في المخرج، فلما وقعت النون قبل الباء، ولم يمكن إدغامها فيها، لبعد المخرجين، ولا أن تكون ظاهرة لشبهها بأخت الباء وهي الميم، أبدلت منها لمؤاخاتها النون والباء.
القسم الخامس: إخفاء النون الساكنة والتنوين عند باقي الحروف، وهي خمسة عشر حرفاً، يتضمنها أوائل كلمات هذا البيت: صف ذا ثنا جود شخص قد سما كرماً ضع ظالماً زد تقىً دم طالباً فترى
نحو:
أن صدوكم ، منصوراً ، صفاً صفاً .
من ذلك ، المنذرين ، وكيلا * ذرية .
فمن ثقلت ، منثوراً ، جهارا * ثم .
من جوع ، أنجانا ، حباً جماً .
من شر ، منشوراً ، نفس شيئا .
من قرار ، وينقلب ، فعجب قولهم .
من سوء ، منسأته ، باب * سلام .
من كل ، منكم ، قريةً كانت .
لمن ضره ، منضود ، ذريةً ضعافاً .
من زوال ، منزلاً ، متاع زبد .
من تحتها ، كنتم ، حاضرةً تديرونها .
من دابة ، أنداداً ، مستقيم ديناً .
أن طهرا ، فانطلقا ، فدية طعام .
أن طهرا ، فانطلقا ، فدية طعام .
من فواق ، الإنفاق ، ماءً فسالت . ونحو ذلك، وقد تقدم الكلام على الإخفاء ومعناه.
وعلة ذلك أن هذه النون صار لها مخرجان: مخرج لها، ومخرج لغنتها، فاتسعت في المخرج، فأحاطت عند اتساعها بحروف الضم، فشاركتها بالإحاطة، فخفيت عندها. واعلم أن الغنة تخرج من الخيشوم، كما تقدم، والخيشوم خرق الأنف المنجذب إلى داخل الفم. واعلم أن إخفاؤهما على قدر قرب الحروف وبعدها، فما قرب منهما كان أخفى عندهما مما بعد عنهما. وتقدم الكلام على الفرق بين الإخفاء والإدغام. واحذر إذا أتيت بالغنة أن تمد عليها، فلذلك قبيح.
( فهذه أحكام النون الساكنة والتنوين ) .