شفاعة الرسول في أهل الكبائر من أمته ، ممن دخل النار ، فيخرجون منها ، وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث . وقد خفي علم ذلك على الخوارج والمعتزلة ، فخالفوا في ذلك ، جهلا منهم بصحة الأحاديث ، وعنادا ممن علم ذلك واستمر على بدعته . وهذه الشفاعة تشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضا . وهذه الشفاعة تتكرر منه صلى الله عليه وسلم أربع مرات . ومن أحاديث هذا النوع ، حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي . رواه الإمام أحمد رحمه الله .
وروى البخاري رحمه الله في كتاب التوحيد : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا معبد بن هلال العنزي ، قال : [ ص: 291 ] اجتمعنا ناس من أهل البصرة ، فذهبنا إلى أنس بن مالك ، وذهبنا معنا بثابت البناني إليه ، يسأله لنا عن حديث الشفاعة ، فإذا هو في قصره ، فوافقناه يصلي الضحى ، فاستأذنا ، فأذن لنا وهو قاعد على فراشه ، فقلنا لثابت : لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة ، فقال : يا أبا حمزة ، هؤلاء إخوانك من أهل البصرة ، جاؤوك يسألونك عن حديث الشفاعة ، فقال : حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا كان يوم القيامة ، ماج الناس بعضهم في بعض ، فيأتون آدم ، فيقولون : اشفع لنا إلى ربك ، فيقول : لست لها ولكن عليكم بإبراهيم ، فإنه خليل الرحمن ، فيأتون إبراهيم ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بموسى ، فإنه كليم الله ، فيأتون موسى ، فيقول : لست لها ، لكن عليكم بعيسى ، فإنه روح الله وكلمته ، فيأتون عيسى ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فيأتوني ، فأقول : أنا لها ، فأستأذن على ربي فيؤذن لي ، ويلهمني محامد أحمده بها ، لا تحضرني الآن ، فأحمده بتلك المحامد ، وأخر له ساجدا ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل [ ص: 292 ] يسمع لك ، واشفع تشفع ، وسل تعط ، فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقال : انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجدا ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، واشفع تشفع ، وسل تعط ، فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقال : انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجدا ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، أمتي أمتي ، فيقول : انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان ، فأخرجه من النار ، فأنطلق فأفعل . قال : فلما خرجنا من عند أنس ، قلت لبعض أصحابنا لو مررنا بالحسن ، وهو متوار في منزل أبي خليفة ، فحدثناه بما حدثنا به أنس بن مالك ، فأتيناه ، فسلمنا عليه ، فأذن لنا ، فقلنا له : يا أبا سعيد ، جئناك من عند أخيك أنس بن مالك ، فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة ، فقال : هيه ؟ فحدثاه بالحديث ، فانتهى إلى هذا الموضع ، فقال : هيه ؟ فقلنا لم يزد لنا على هذا ، فقال : لقد حدثني وهو جميع منذ عشرين سنة ، فما أدري ، أنسي أم كره أن تتكلوا ؟ فقلنا : يا أبا سعيد ، فحدثنا ، فضحك وقال : خلق الإنسان عجولا ! ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم ، [ ص: 293 ] حديثي كما حدثكم به ، قال : ثم أعود الرابعة ، فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجدا ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، ائذن لي فيمن قال : لا إله إلا الله ، فيقول : وعزتي وجلالي ، وكبريائي وعظمتي ، لأخرجن منها من قال : لا إله إلا الله . وهكذا رواه مسلم .
وروى الحافظ أبو يعلى عن عثمان رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء . وفي الصحيح من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا ، قال : فيقول الله تعالى : شفعت الملائكة ، وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة من النار ، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط ، الحديث .
ثم إن الناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال :
فالمشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ [ ص: 294 ] وغيرهم : يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا . والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الكبائر . وأما أهل السنة والجماعة ، فيقرون بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر ، وشفاعة غيره ، لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ويحد له حدا ، كما في الحديث الصحيح ، حديث الشفاعة : إنهم يأتون آدم ، ثم نوحا ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، فيقول لهم عيسى عليه السلام : اذهبوا إلى محمد ، فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتوني ، فأذهب ، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا ، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي ، لا أحسنها الآن ، فيقول : أي محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع ، واشفع تشفع ، فأقول : ربي أمتي ، فيحد لي حدا ، فأدخلهم الجنة ، ثم أنطلق فأسجد ، فيحد لي حدا ذكرها ثلاث مرات .