الكاتب في سطور :
يواصل الاديب الروسي يوري ماملييف في اعماله تقاليد السوريالية الاوربية ويضفي نكهة روسية عليها. ويصف ماملييف نفسه بانه واقعي ميافيزيقي، وهذا لايجعل اعماله تتناقض مع المنطلقات الجمالية للسوريالية. ففي اعماله يتوحد الوجود مع الميتافيزيقي غير المدرك.وفي قصصه القصيره وروايته يجري تقارب بين اللاعقلاني واللاوعي والطبيعي الملموس.ويرسم ممالييف صورة ميتافيزيقية للعالم، ويستخدم لهذا الغرض الوسائل الفنية التقليدية لرسم صور بشرية وحياتية غير واقعية. وتبحث شخوص ماملييف طيلة الوقت عن الملكوت الرباني والمطلق ويقفون خلال البحث على شفر حافة الوجود والعدم في مسعي لتلمس الحد الاقصى للحالة التي يعيشونها. ويثير قلقهم السؤال عن الموت وعما يوجد هناك، ما بعد الحياة. وعالم قصصه وروايته وحكايته من ناحية عالم غامض، ملئ بالاسرار والهمس والغرائب ومن ناحية اخرى يؤكد اليومي. وتسعى شخوصه للتمكن من اسرار الكون والخليقة، بيد ان التجربة تبرهن على ان العقل عاجز عن بلوغ كل ذلك.
ولد يوري فاسيلفتش ماملييف في عام 1931 في عائلة بروفيسور الامراض العصابية. وانهى في عام 1955 معهد تكنولوجيات الغابة، واشتغل حتى عام 1974 معلما لتدريس الرياضات. ومارس ماملييف حياته الحقيقية والاصيلة في الخفاء، حيث درس الفلسفة الهندية، والصوفية والغيبيات والماورائيات.واصدر مع نظرائه في الفكر في نهاية خمسينات القرن الماضي مجلة سرية تهتم بتلك الموضوعات التي كانت السلطات السوفياتية تحرم الخوض فيها.ومنذ 1953 وحتى عام 1973 كتب اكثر من مائة عملا نثريا مع انه كان يعرف انها لن تنشر في الاتحاد السوفياتي. وحصل عام 1974 السماح بالهجرة من الاتحاد السوفياتي وحتى عام 1983 عاش في اميركا ومن ثم انتقل الى باريس. ومنذ عام 1975 بدات اعمله القصصية تنشر في مختلف المجلات الادبية. وصدرت منتخبات من قصصة القصيرة في حولية "ابولون 77" و مجموعته القصصية بالانجليزية بعنوان "سماء فوق الجحيم". وتوالى من حينها نشراعماله القصصية والروائية ومقالاته ودراساته النقدية. ورات روايته الاولى " اذرع التوصيل" النوربعد عشرين عاما من كتابتها. وتدور احداث الرواية حول عملية قتل من اجل التغلغل في روح المقتول، وفي الوقت نفسه في العالم الاخر. وعاد ماملييف الى موسكو من المنفى اختياري عام 1994. ولاول رات اعماله النور في روسيا في عام 1990 بفضل اشاعة الديمقراطية.
والاساس الروحي لاعمال ماملييف تتمثل في ادراك الحياة الدنيا باعتبارها مرحلة من تحولات غير مادية لذلك فان الموت يعني تحرر " الانا" من الجسد.وقصة "الصوفي(Mystic) نموذج لقصص يوري ممالييف.
هذا الفناء كائن على مشارف موسكو، في زقاق ضيق، يلوح صغيرا وبلدة معزولة. ونادرا ما يترامى فيه ازيز سيارة حمولة متربة، الرب وحده يعرف من اين جاءت والى اي مكان تتجه. واستوت في الفناء زاوية مريحة وسخة استظلت بالواح خشبية قطعت بسكين. كانت فيها مساطب ومنضدة خشبية مائلة. وعند الامسية الصيفية حينما تنهال من السقوف والبيتوتات المتدلية لدور الفناء ذات الطابقين ويترامى مواء القطط، يتجه باشا وهو رجل سمين له اربعون عاما نحو الزاوية الهادئة وبوقار. يتهادى بكرش تدلى كشفتين. واذ اجتمع الجمهور هنا، يروح باشا بغير عجلة من امره، يسرد بجدية حكايته الطويلة العذبة عن الحياة الاخرى. ويروي كيف تواجد في العالم الاخر.
وياتي الجمهور للاستماع له من الشوارع المجاورة والبعيدة،. ويجلب البعض معه القدور بالاكل، والمناشف ويقتعدون الحشائش.وتاتي احدى النساء الراضعات الى هنا حاملة طفلها ابن السنة، ورغم انه يغط دائما في النوم، فانها تدير وجهه كل مرة الى جهة الحكواتي.
ويجلس باشا الحكواتي عادة نصف عاري، بقميص فانيلة وبنطلون، فيلوح صدره كث الشعر، وتتدلى دوما من جيبة سمكة "فوبلا" مقددة.ويستلقي الى جانبه المعجبون المقربون منه: ثلاثة مقعدين، وعجوزة ناحلة لفت على رقبتها ربطة عنق الطلائع اللينينية، وعامل عابس الوجه قوي الملاحظة ـ يجلسون بالقرب منه مثل سلسلة، ويضايقون على الاخرين. وهناك رجل عجوز بنظارة، عقلاني جدا يكتب في حزمة اوراق مدعوسة ومشعثة. و من نافذة احدى البيوت القريبة يبرز عند البداية فقط، قوام اسمر، ناحف. انها ليدَتشكا. بغي الحارة واول المعجبين بحكايات باشا عن العالم الاخر. ترتدي فستانا غريبا ملطخا اما بقذارة او بالبول، عيونها متعبة كانها تبحث عن الملكوت في السماء، واعتمرت اكليل اطفال من الاقحوان البري.ويستدير باشا نحوها براسه الكبيرة التي اثقلتها الافكار، ويدعوها له بشفتيه. فتهرع لِيدَتشكا الى باشا بكل تالق اعوامها التسعة عشر. لقد اعتدن نسوان الحارة العابسات السمينات كرغيف خبز، على ليدتشكا. ورغم انها تعاشر ازواجهن، فانهن يضمرن لها حب عميق وخالص. يضمرن لها الحب لان الازواج بكل الاحوال سيمارسون الخيانة الزوجية، وحتى النوم مع ظلالهم مثل الرجل المهبول من الطابق الثاني، ولولم تكن ليدتشكا وقصصها، لما كان لدى نساء الحارة موضوع للخوض فيه في الاماسي الطويلة ليوم الجمعة.فماعدا حكايات باشا عن العالم الاخر فالمتنفس الوحيد لنسوان الحارة كانت الاحاديث الطويلة الصاخبة عن مغامرات ليِدَتشكا. وغالبا ماشرعت بهذه الاحاديث تلك المراة التي يتنادم الان زوجها مع لِيدَتشكا، وتروح بدقة وتفصيل وبحماسة تقص كم من النقود انفق زوجها على لِيدَتشكا، وكم من القدور والمسامير اهداها.كل ذلك كان شيقا للغاية لذلك فان النساء قبلن بليدتشكا.
وتشق ليدتشكا طريقها بين المساطب و كالعادة تستلقي على الارض عند اقدام باشا، ووجها نحو السماء. فبعد البغاء فشغلها الشاغل كان الرنو الى السحب الشاهقة في السماء0عقب ذلك يتنحنح باشا ويطفق بالحديث في البداية بصوت واطئ خجل، ومن ثم عاليا فعاليا:
ـ حدث هذا بالضبط عشية الجمعة، وجدت نفسي بالخطأ في العالم الاخر. ومن ثم اعترفوا بالخطأ، فانبثقت فجأة.
ويسحب باشا بحذر في هذه اللحظة من سرواله سمكة الفوبلا المقددة ويروح يشمها على مهل.ويواصل:
ـ اقول لكم ان هذا البلد، اي عالم الحياة الاخرى عالم فاتن وبديع، فكل ما هناك يختلف عن ما لدينا. في البداية اعتراني الخوف، وبكيت مثل طفل معتوه، لا ادري مالعمل...الشئ السئ هناك انه ومن كافة الجهات واينما تتجة، تواجهك حفرة...طويلة مثل طريق التبانة... ومهما حاولت السير على جنب تجد نفسك دائما تمشي على الحافة... وبعد ذلك بدا الامر سهلا، فتعودت... وما يتعلق بالنساء،يا بنات ابدا ابدا لاشئ ...لانعدام وجودهن... فهناك كل شئ يبدو هوائيا. ولكن يمكنك ان تحب أي كان... لان الغرام لديهم من اجل الاحاديث... فاذا وقع احد في حب الاخر، فانهما ببساطة يجلسان ويتجاذبان اطراف الحديث طيلة الوقت عن مختلف الاشياء... وهذا هو الحب كله...والبعض يقول ان هذا افضل مما لدينا... وفي هذه الاثناء عادة ما تتأوه وتندب العجائز والنسوان المحيطات بباشا. وتردد العجوز الناحلة طيلة الوقت:
ـ ياللرعب وينتعش باشا.
ـ اذا وقع الاحد بحب صديقته، فهناك فقاعة لها الغرض... حيث تبرز من عيون المحبين فقاعة كبيرة وتلفهما في حزمة واحدة، ومع ذلك فانهما يظلان منفردين... فالاتصال يظل روحيا وانهما يظلان محميين من الفقاعات الاخرى...
وبغتة تغمر عيون باشا كآبة وحشية، ويطفق بقظم سمكة الفوبلا على عجل.
وتتعالى الاسئلة ـ ما بك يا باشا ويتمتم باشا وكانه يتحدث في الفراغ:
ـ فقدت صديق لي هناك، احيانا يراودني في الحلم... وقد حدث ذلك بهذا الشكل. عندما وجدت نفسي هناك، اردت في البداية ان افتش عن امي وعن ابي. وجدي. لكن البحث هناك ليس سهلا، فانت ترى الناس ولاتراهم ولاتعرف ان كان الوقت ضياءا او ظلمة فليس ثمة قمر ولاشمس ولانجوم. ليس هناك شئ من هذا.تشعر بالحفرة في كل مكان. غرقت بالحزن وفكرت بالانتحار، تمضي تمضي ولاتعرف الى اين، ولايعير لك الناس اهتماما، كانك وسط اسماك، بيد ان وبالصدفة تعرفت على رجل سمين، رجل ممتاز، اسمه" ينتيم" ظهر انه بابلي... مهنته حمامجي... لقي حتفه قبل خمسة الاف سنة... فرحت للغاية، حتى رقصت من شدة السرور، ذهبت معه الى الاعلى وانغمرنا في الاحاديث. حكا لي كيف لقى حتفه. فقد مات على يد حلاق... استعمل فاسا غير مؤاتية لقص شعره وهذا ما افضى لموته...
غرق الفناء بالسكون العميق، مثلما في اجتماع يعتزم تبني اجراءات خطيرة. ويستمر على هذا المنوال ساعة او ساعة ونصف، لاتنقطع الا حين تطرد عجوز صبيا وقحا.
ويختتم باشا في نهاية المطاف حكايته. واول من ينهض ليدتشكا، وقد اغرورقت عينيها بالدموع. وتعدل الاكليل على رأساها وتاخذ باشا من يده. وكان باشا الرجل الوحيد الذي تمنحه ليدتشكا نفسها مجانا.والدمعات التي تفيض بها عيون ليدتشكا لاتعدو غير حبات بلورية تعبد الطريق لقلب باشا وللكائنات العليا.
وعقب ان يهدأ الجميع، تاخذ ليدتشكا القيثارة، وتجلس على المائدة وتنشد اغاني مشحونة بالكلمات البذيئة...
وبالتالي يسدل الظلام استاره، واول من ينسحب باشا مع ليدتشكا. يسيران متعانقين، رجل اعرج يتهادى بكرشه الكبير، وفتاة رشيقة القوام في فستان ملطخ بالبول.
وتشيعهما نظرات العجائز. فيخيل لهن ان الاكليل من الاقحوان البري تي على راس ليدتشكا، هالة خفية متوهجة.
وغالبا ما يقلن عنها :
ـ قديسة
وتعشق ليدتشكا باشا وحكاياته. بيد انها سرقت منه ذات مرة فنجانا عتيقا، حقا انه رخيص الثمن ولكنه عزيز على قلب باشا لانه ورثه عن جده، غير ان ليدتشكا ارادت شراء حذاء جديد ونقصتها بعض الروبلات.
الجميع يراقبون اختفائهما في ثقب القبو المعتم. يختفيان وقد التصق احدهما بالاخر مثل اوراق من شجرة واحدة...وبعدها يتفرق الاخرون