" أغلـــــــــى هديــــــــــــة "
عزمتُ على أن أقدم أغلى وأجل هديه
ورحتُ أسأل كل خبير ذو فكر ودراية ورويه .
ما أثمن ما يمكن أن يقدمه المرء لمحبوبه كهدية؟
فأجابوني :- في مناك منيه ، فتروى ليس منا أيها الصاحب من يهوى المنية!
قلت :- ما كنت لأخشى ، فأجيبوني .أجيبوا إن لي روحاً أبيه.....
***************
فأجابوني :- تروى . كان للأصحاب من قبلك عزم وحميه.
ذهبوا وتلاشوا . لم يعد منهم عتيد ، سُلبوا النفس الزكية.
حسرات ذاقها الصحب ذوي الأصحاب يا هذا ، ولم تحفظ وصية .
قلت :- إن شأناً لهدية يورد الموت ، لشأن عظيم ماله دعوى الروية.
مطلب للنفس وحق لهواها ، أي درب نهجوا ، أي درب سلكوا ثم ما تلك الهدية؟.
***************
فأجابوني :- تلك ورود عطرات زكية . في رياض فاتنات ذات أوراق ندية.
خالدات حسنها الحسن . لا تفنى ، ولا تبلى ، ديمومة الإشراق صبحاً وعشية.
محفوفةٌ بسياج من الصلد ، وضباع ذات أفكاك ، وأنياب قوية.
ومخلوق عجيب الهيئة . مارد ضخم . يتوقد الشر من عينية ، وأشواك صلية.
إنه الموت والهلاك وتعجيل المنية ، فتروى .. تروى أي بنية.
***************
فعزمت ، وودعت هوى النفس ، وقبلت ، وأعظمت التحية.
وتجلدت كأني لم أكن في فراق هو عندي أعظم شأناً من شأن تلك المنية.
قال :- هون . قلت :- أما كنت تدعوني الهدية . قد عزمت مضياً . سأعود ما لذي النفس بقية.
سوف يعلم الكل مقدار هواك ، وتعلم أنك الأثمن والأغلى لدية.
ثم أسرجت خيلي ، وتوشحت سيفي ، وأبلغته مني الوصية.
***************
ومضيت أبحث الأرض التي تعبق بالشذوا ، وتسلب الروح الفتية.
وفي الدرب . حيث البيد القاحلة ، وأصوات الرياح العتية.
إذا بصوت هزيل ينادي . أي بنية ، تحركت يمنة ، ويسرة ، فإذا بشيخ يكاد يهلك ، وعن يمينه طفلة صبية.
قلت :- ما بال الشيخ ، وطفلته . أضياع درب ، وفقدان رعية؟.
فأجاب الشيخ:- ما دعيت من قبلك سالكاً للدرب هذا، وأجابني ، فجزيت الخير ووقيت شر الهدية.
***************
قلت:- الهدية! ، ألديك علم أيها الشيخ بأمر الهدية؟.
قال:- ما سلك الدرب أحد من قبل إلا وتحدث عنها دون أن يصغي إليه.
كلما حدثت أحدهم قال لي :- تنحى إنني عجلٌ ، وصاحب درب طويل ، وما شيءٌ لدية.
فأجيبه :- رحماك . ما أريد شيئاً . إنما شربة ماء ، وكسرة خبز تنقذ الصبية.
فيتولى ذاهباً دون رحمة أو شفقة على طفلتي ، مردداً تنحى ..تنحى عطلتني عن جلب الهدية.
***************
فكرت في أمر هذا الشيخ ، وقدرت ، وقلت في ذاتي . ما بقاءه دون حراك والصبية.
وعزمت أن أعطيه ، ما يكفيه ، وطفلته رغم طول رحلتي ، وحاجتي لما لديه.
فشكرني كثيراً ، ثم أعطاني خرجاً (كيس) صغير ، به مادة أشبه بالمادة الترابية.
قلت ما هذا أيها الشيخ الجليل ، فقال :- ما صادفتك المصاعب أطلقه ،فما يمس عيناً إلا وأغرقت في بحور سرمدية.
شكرت الشيخ ، وانطلقت أشق الدروب ، بعد أن فهمت أيها الأنسب من إشارات الصبية.
***************
وفي ليل ذات يوم ، حيث بدأ الشراب يقل ، والطعام لا يتجاوز راح يديه.
افترشت الأرض ، وذكرت ربي ، ثم أغمضت عينية.
ولم أفق إلا ، وامرأة تقف على رأسي ، تطلب مني لطفلها الرضيع ما تبقى لديه.
خشيت أن أمنعها ، وقلت في ذاتي :- إن من ساق لها الرزق في تلك البقية.
قادر أن يسوق لي الرزق ، وإن كان في ظلمات ، وأعماق خفية.
فأعطيتها ما تبقى من شراب ، وطعام ، وهممت بالانصراف ، فناشدتني الروية.
***************
قلت ما بك أيتها المرأة الطيبة؟ ، وددت لو كان لدى المزيد لوهبتك واجزيت العطية.
قالت :- لست في حاجة ، الخير فيما بذلت ، ولكن خذ هذا ، فربما ينفعك أي بنية.
قلت ما هذا .. فقالت :- بعضٌ عجيب من لقاحات زهرية . ما إن تنثره على جسدك إلا وتختفي عن كل عين ، فتقيك بإذن الله كل أذىً ، وردية.
فشكرتها ، ونظرت لطفلها ، فإذا به مشرقاً ضحوك ، يتأملني تأمل المحب ، ويا لها من نظرة بريئة طفولية.
وكان ما أدهشني فيه أنه أشار بإحدى إصبعيه إليه . يدلني على الطريق . حيث ما أبحث عنه حيث أغلاها هدية.
***************
سرت وكلي أمل في الله كبير على نيل المراد ، وبلغت حيث إقصاء القضية..
وهنا تسمرت إعجاباً ، وما عادت تقوى حراكاً قدميه..
مشهدٌ يكاد لا يصدق . طرق ذات منحنيات ، وصخور وأوتادٌ عتية..
وصدى لفحيح ، وعواء ، وزفراتٌ شديدةُ البأسِ قوية..
ومضيت قدماً ، والخطوات ثكلى . تشكوني ألماً وتنذرني الردية..
***************
لم أعر سمعاً لخطواتي ، وفجاءة إذا بجمعٍ أشهى ما لديه الأصناف البشرية..
ضباعٌ شتى ، متمردةٌ.. عصيةٌ ، ووحشية..
تذكرتُ ما أهداني ذاك العجوز الطيب ، فألقيته ، فإذا بها تبحر في عالم الأحلام الوردية..
وهنا تقدمت ، وفؤادي يكاد يطير خشية دون أن يستأذنني في التحليق سوية..
فإذا بالمارد الضخم وقد توسط مقصد ذاتي ، لزفراته ريح ، وزوابع رملية..
***************
لم أدرك من شدة الموقف أمر ما كان من المرأة الطيبة الطاهرة النقية..
أجل .. تلك المادة العجيبة ، فحملتها ، ونثرتها على جسدي يسبقها أملٌ في رب البرية..
وحينما اقتربت من حارسنا الوحشي ، لم يشعر بأمري ، فتجاوزته دون رويه..
لأشهد ما أثلج قلبي ، وأسعد ذاتي ، وناظريه..
وما أن مددت يدي .إلا وانبلجت تلك الجموع تمنحني فرصة ذهبية..
فقطفت الزهرة الندية ، وعدت سريعاً لأقدمها لأجمل مخلوق على وجه البرية...
***************
وما إن تجاوزت المكان حتى أحسست بعودة ما فقدت لديه..
ولا تسألني كيف كان شعوري . حين استقبلني أخر ما ودع واستودع ناظريه..
فرحٌ وسرورٌ وبهجةٌ وشرودٌ ومعجمٌ من الأبجدية..
تساؤلاتٌ ونظراتٌ وغبطةٌ ووجومٌ وشحوبٌ وتناهيدٌ دجية..
وفضاءٌ من هوى نفسٍ يكاد يغرق ذاتي الحالمةِ النرجسية...
***************
بحثتُ هنا وهُناك .. يقتاتُني الأسى ، وتذبحُني النظرات الشقية..
أين وجودي ، وكياني ، وعلو شأني ، وأغلى ما لديه؟!!...
أما من مجيب يؤنس وحشتي ، وينقضُ مُهجتي ، ويصغي إليه..
أجيبوني .. أكاد أصرع ما شأن روحي ، وغلى مقلتيه..
يتفرق الجمع ويخلوا المكان ، ويبقى مُدركٌ لما كان يخشاه عليه...
****************
نعم أيها الشيخ الجليل .. ما شأن نبضي ، وأنفاسي الطاهرة الزكية؟!..
أنت من سيجيبني .. رُحماك .ما عُدت أقوى على الأمر احتمالاً وروية..
أمكروهٌ أصاب ، وهلاك أباد ، وفناءٌ حل بالروضة البهية؟!..
يرد الشيخ الجليل:- لهان الأمر عليك ، وعليَّ أي بنيه..
ماذا أيها الشيخ الجليل :- لهان الأمر !!، أترى فيما ذكرتُ هواناً عليه...
****************
ما الأمر إذاً؟! لقد أذكيت ، وأثريت لهيباً عاصفاً يجتاحُ أعماقي الخفية..
يردُ الشيخ الجليل :- هون عليك هون .. أتبصر تلك الصبية..
نعم .. أيها الشيخ الجليل . ما أشبهها بغالي لدية..
تلك الصبية .. نتاجُ قلة صبر ، وانعدامُ وفاءٍ ، ورحيلٌ للإنسانية..
أدركتُ الأمر أيها الشيخ ..أدركتُ الأمر ، يا لي ما آلت إليه ، وآل إليه....
*****************
ما أسعد من هلك ، وما عاد ليجرع ألف موتٍ ومنيه..
ما أسعد من هلك ، وما عاد ليجرع ألف موتٍ ومنيه..
ولم أدرك الأمر إلا وأنا بين أحضان لها الطُهر والنقاءُ والحُسن سجية..
القلبُ أمي تنوحُ باكيةً أشهدها تارةً ، وتارة تشهدني ، فمغشيٍ ، ومغشية..
تشكو عدم حراكي ، وموت جسدي إلا من يدِ اليمنى حيثُ بقايا لأشلاء أغلى هدية...
************************
<< أبووسام >>
10 / 11 / 1427هـ
*********