هذا الذي يطل علينا عبر الشاشات الفضائية متخلياً عن جلاله القديم لصالح الصورة التلفزيونية وما تتطلبه من إبهار وإدهاش وغرابة من نوع خاص توفر لها الكثير من عناصر المنافسة الحامية بين التلفزيونات.
هو الموت هو إذن...
هذا الذي يقدم لنا الجسد البشري، هذه الأيام، كومة من اللحم والدم والعظم والألم المقطر تنازل عن صورته التقليدية التي جسدته لنا غموضاً أصيلاً ومستديماً رغم إحساسنا به كحقيقة أولى وحقيقة أخيرة، فصار يغافلنا عبر صور متلاحقة تمطرها بنا الفضائيات بالصوت والصورة، والألوان الطبيعية، كل دقيقة، كل ثانية، للدرجة التي يصير بها شيئاً عادياً، شيئاً أليفاً ومرافقا لنا، نفتقده إذن يغيب قليلاً، ونسأل عن عدد ضحاياه في اليوم والليلة.
نسأل تحديداً عن عدد الجثث التي شاهدناها على شاشة هذه المحطة أو تلك.
نسأل عن كمية الدم المنسكب.
نسأل عن هوية الدم المتسرب.
نسأل عن شكل الدم المسفوح من هذه الجثة وتلك الجثة.
نسأل عن لونه ولغته، وبأي ذنب تخلى عن شرايينه ليروي الأرض الكتومة.
صار الموت هو الحدث التلفزيوني اليومي، والمفردة التي تتردد على السنة المذيعين والمذيعات على خلفية مظلمة تتسيد المشهد كله لو لا بروق تلمع، وأصوات ترعد في الأجواء.. لتقول لنا هنا الحرب.. هنا الموت.. وهنا يمكن للإنسان أن يتحول إلى جثة على الهواء مباشرة تحت سمع وبصر المراسلين الذين يتسابقون لاقتناص لقطة الموت الأشهى، والأوضح، والأكثر إثارة والمرشحة لإحراز قصب السبق في صيد الفضائيات.
صار الموت إذن، حرفة القتلة بالضرورة، والقتلة بالصدفة،
والقتلة بالخطأ.. والقتلة وفقاً لمبدأ القصاص في سبيل الحياة.. وصار حرفة المنتحرين أيضاً، أولئك الذين لا يجدون سوى الانتحار هرباً من الموت بشكله المجاني..
وحرفة المجبرين على الموت في سبيل حياة مديدة للقاتل الذي يخترع لهم الحرب تلو الحرب، وفقاً للكذبة تلو الأخرى، ووفقاً للشعار تلو الآخر، ووفقاً للمرحلة تلو الأخرى.. فقط لأنه لا يطيق الحياة لغيره.
هو الموت إذن...
يطالعنا في كل شاشة تلفزيونية، فيحيل هذه الشاشات واقعاً نهرب منه إليه لعلنا ننجو من ظنوننا،
لعلنا نستريح من هواجسنا.. دون جدوى!!.
تحياتي محمد العنزي