لا شكّ أنّ فنّ التعامل مع المجتمع يتطلّب معرفتين معاً : معرفة العوامل التي تقوِّي وتنشِّط العلاقات ، ومعرفة العوامل التي تضعفها وتمزِّقها ، ذلك أنّ معرفة الجانب الثاني كفيلة في جعلنا نبتعد عن المنفّرات في العلاقات الاجتماعية ، كما تجعلنا نتحسّس استياء الآخرين من اُولئك الذين لا يراعون آداب اللِّياقة فنجتنب كلّ ما هو مسيء أو بذيء ، وبكلمة مختصرة فإن كلّ واحد منّا هو بمثابة مرآة للآخر يرى فيها الآخرون الجانب المشرق والجانب المعتم كما يرى في الآخرين الجانبين معاً .
وحتّى تكتمل الصورة سنضع بين يديك عدداً من المنفّرات عسى أن نحرص على تحاشيها كجزء من اجادتنا لفنّ التعامل :
1 ـ في كتاب الله الكريم أكثر من لفتة قرآنية لما اصطلحنا عليه بالمنفّرات ، ومنها :
أ ـ السخرية : وهي الاستهزاء بالآخرين ظنّاً منّا أ نّنا أفضل منهم، ناسين أ نّهم قد يفوقوننا في أشياء كثيرة ، وأنّ ما قد نسخر منه قد يكون ابتلاءً لا دخل للمصاب فيه كالأعرج أو الأعور أو الأصمّ أو الأبكم . يقول تعالى : (لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَوْم عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِن نِسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ )(1) .
ب ـ اللّمـز : وهو الوخز والطعن بالعيب ، وهو من أسرة المنفّرات المزعجات ، وهو أن تطّلع على عيب في أخيك فتعيِّره به ، أو تهزأ به أمام الآخرين ممّا يسبِّب له جرحاً عميقاً ، في حين أنّ الاسلام يحبّ الستر ويدعونا إلى أن نستر ما نراه من عيوب الآخرين . يقول تعالى : (وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ )(2) .
ج ـ التنابز : وهو التنادي بما يسيء لإخواننا ويكرهونه، فالألقاب الساخرة والأسماء اللاذعة ، وأدوات التخاطب المخدشة تعبِّر عن هبوط في الشخصية ، ولقد مرّ معنا أنّ الإسلام يطالبنا بأن ننادي إخواننا بأحبّ الأسماء إليهم . يقول تعالى : (وَلاَ تَنَابَزُوا بِالاَْلْقَابِ )(3) .
د ـ سوء الظنّ : وهو أن تفسِّر كلّ حركة وسكنة من أخيك تفسيراً سيِّئاً ، وهو عكس ظنّ الخير الذي دعت إليه الأحاديث التي استعرضناها، وهو كذلك كاشف عن نفس تنطوي على خبث وسوداوية فلا ترى من أفعال الناس وأقوالهم إلاّ المشين . يقول تعالى : (يَا أَ يُّهَا ا لَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ )(4) . وقد ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : « إيّاكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث » .
هـ ـ التجسّس : فكما أنّ عدم الثقة يقودك إلى سوء الظنّ وهو عمل باطني ، فكذلك يقودك إلى عمل ظاهري وهو التجسّس والتقاط العثرات وتتبّع الأخطاء وترصّد الهفوات ، فالتجسّس هو تتبّع عورات وعثرات المؤمن . يقول تعالى : (وَلاَ تَجَسَّسُوا )(5) .
و ـ الغيبة : وهي ذكرك أخاك بما يكره ، فإن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته . وهي جهد العاجز الجبان الذي لا يقوى على مواجهة الآخرين بالصراحة فينال منهم في غيابهم فهو كمن يطعن في الظهر .. وأخطر ما فيها أ نّها توسع من دائرة المطلعين على العيب ممّا يسبِّب هتك حرمة المؤمن ، ولنتأمّل في هذه الصورة المقزّزة المنفّرة والنابية عن كلّ ذوق ، يقول تعالى : (وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ )(6) .
ز ـ النميمة : وهي نقل ما يسمعه أحدنا من شخص إلى آخر ليوقع بينهما ، وهذا من سوء الطبع والسريرة ، فبدلاً من أن نعمل على اصلاح ذات البين ونقل الصور الطيِّبة عن كلّ صديق نعمد إلى تشويه صورته في نظر الآخر ، ولذلك قال تعالى : (وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّف مَهِين * هَمَّاز مَشَّاء بِنَمِيم )(7) . وجاء في الحديث : « من نمّ لك نمّ عليك » . وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « ألا أنبِّئكم بشراركم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : المشّاؤون بالنميمة ، المفرِّقون بين الأحبّة » .
ح ـ هتك الحرمة : إنّ كلّ ما سبق من منفّرات تشكّل هتكاً لحرمة المؤمن التي توصف ـ حسب الروايات ـ بأ نّها أعظم من حرمة الكعبة، ولكن يضاف إليها كلّ ما من شأنه أن يسيء أو يشوّه سمعة المؤمن بحيث يسقطه اجتماعياً . يقول تعالى : (إِنَّ ا لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ا لْفَاحِشَةُ فِي ا لَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَا لاْخِرَةِ )(8) . وفي الحديث : « لا تذهب بالحشمة بينك وبين أخيك .. أبقِ منها فإنّ ذهابها ذهاب الحـياء » . وفي المحـصلة يحرم إيذاء المؤمن وتحزينه وإهانته وخذلانه واحتقاره واسخاطه . يقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) : « من آذى مؤمناً فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله » .
ط ـ ومن المعاول التي تهدم الاخوّة وتخرِّب بيت الصداقة : ( الشحناء ) وهي البغضاء، و ( المعاداة ) وهي اعتبار أخيك عدوّاً لك ، و ( الملاحاة ) وهي أشدّ الخصومة حتّى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : « من لاحى الرجال سقطت مروءته وذهبت كرامته » . و ( المشارّة ) وهي التسبّب في الشرّ للآخر ، و ( المشاجرة ) والشجار أوّل الخصومة ونوع من أنواعها ، و( القيل والقال ) وهو من النميمة والغيبة والتسقيط ، و ( التباغض ) الذي يقطع جسور الوصل حتّى جاء في الحديث « إنّ في التباغض الحالقة ـ ولا أعني حالقة الشعر ـ ولكن حالقة الدين » ، و (المراء ) وهو الاسلوب الملتوي في التعامل .
يقول عليّ (عليه السلام) : « مَن بالغ في الخصومة أثِم ، ومن قصّر فيها ظُلم ، ولا يستطيع أن يتّقي الله من خاصم » .
ي ـ إحصاء العثرات : وهي عمليّة تنمّ عن خبث واستعداد نفسي للإطاحة بالآخر من خلال احصاء عثراته وزلاّته ، وهي أشبه بما تقوم به قوى المخابرات من الاستدراج للإيقاع بالضحيّة . يقول جعفر الصادق (عليه السلام) : « من أحصى على أخيه المؤمن عيباً ليشينه به ويهدم مروءته فقد تبوّأ مقعده من النّار » . وقد وصفته أحاديث اُخرى بأ نّه من الغدر .
ك ـ الهجر : قد تصل العلاقة بيني وبين أخي وصديقي إلى درجة المقاطعة المؤقتة ، وذلك أمر طبيعي في حال تعصّب كلّ منّا لموقفه ، ولكن إذا حصل وانتهى الأمر بالقطيعة فلا ينبغي أن يصل إلى درجة الهجران الكلّي أو الدائم فذلك ممّا ينافي اسلام المسلم وإيمان المؤمن ، يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : « أيّما مسلمين تهاجرا فمكثا ثلاثاً لا يصطلحان إلاّ كانا خارجين من الإسلام ، ولم يكن بينهما ولاية ، فأيّهما سبق إلى كلام أخيه كان السابق إلى الجنّة يوم الحساب » .
وفي قواعد السلوك وآدابه : « لا تنفعل ولا تجادل ولا تضغط ولا تصعّد الموقف .. إكسب الجدال بأن تتجنّبه .. انّ كلمة (أنت مخطئ) هي أقصر طريق لجلب العداوة .. سلّم بالخطأ حين تخطئ .. ولا تنتقد نقداً عقيماً يكسر القلب ويذلّ النفس فذلك أساس النكد »
منقول للافاده
تقبلو مروري