لم تعد خيارات العمل واسعة أمام الشباب، الذين لم يعد أمامهم سوى كسر الحاجز النفسي أمام الوظائف والمهن التي لا تحظى بالاحترام الاجتماعي المناسب، وذلك ما جعلهم يضيقون خياراتهم الوظيفية ويتراصون في صفوف البطالة، ولو أن أحدهم عمل في أي وظيفة يكتسب من خلالها الخبرة ويتدرب على مواجهة متطلبات الحياة العملية لكان أجدى وأفضل من ندب الحظ.
لم يعد انتظار الوظيفة المريحة مرغوبا أو مفضلا، فقيمة الشاب بما يعمله من أعمال شريفة دون النظر إلى تواضعها واحتقارها، الذي يفصله كثيرا عن الكسب الحلال ويضعف وضعه العملي والمهني، وكما قدم وزير العمل الراحل الدكتور غازي القصيبي للشباب السعودي تجربة حية لنادل يكسب بشرف فإن الأعمال التي تتقاطع مع الخدمات الاجتماعية غالبا لا تحتاج إلى مهارات وهي تدر عائدا ماديا بسيطا ولكنها في الوقت نفسه تفتح الأفق العملي وتهيئ الشاب لدخول الحياة العملية بوعي وإدراك.
وقد أثار خبر إعلان عن وظيفة «قهوجي سعودي» في أحد المواقع المشهورة بالوظائف على الإنترنت انتباه كثير من الشباب السعودي تجاه هذه المهنة التي كانت محتقرة منهم من قبل لأسباب يراها بعضهم اجتماعية، ويراها آخرون مادية، حيث رواتبها غير مجزية.
ووجد الإعلان إقبالا كبيرا من الشباب السعودي وتبادلوه عبر البريد الإلكتروني ورسائل «الإس. إم. إس» بكثافة خلال الأسابيع الماضية، في إشارة قوية منهم إلى قبولهم العرض الوظيفي القوي دون النظر في حيثيات الرفض سابقا، والتي لم تشهد دخول السعوديين في هذه المهنة إلا بأعداد قليلة جدا.
وأشار الإعلان الوظيفي في الموقع الإلكتروني إلى أنه مطلوب قهوجي سعودي للعمل في إعداد القهوة وتقديمها لدى إحدى الشخصيات الكبرى في العاصمة السعودية الرياض يبدأ من 15 ألف ريال، واشترط الإعلان أن يجيد الشاب اتقان عمل القهوة وصبها وتقديمها للضيوف، محددا شروطا لقبول المتقدم لها ومنها: أن يكون سعودي المنشأ والأصل، وألا يقل عمره عن 18 عاما ولا يزيد على 50 عاما، وأن تكون صحته جيدة ولا يشكو من أمراض مزمنة أو معدية، وأن يكون حسن السيرة والسلوك وحسن المظهر، وأن يكون متفرغا تفرغا تاما، ولا يتدخل فيما لا يعنيه طوال فترة عمله.
ضعف الرواتب
وبغض النظر عن الإعلان ومدى جديته فمن المؤكد أنه يهد من ثقافة العيب والأسباب الاجتماعية التي تمنع العمل في بعض المهن مهما رفعت أجورها، يقول حسن الحسني، 24 عاما، وعاطل عن العمل: « أرحب جدا بهذا العرض، وأنا موافق دون شروط، فالعمل الوظيفي أهم ما به الراتب الوظيفي، ونحن لم نرفض الوظائف التي يعيبها البعض إلا بسبب تدني مرتباتها الشهرية، وبهذا العرض الوظيفي نكون تجاوزنا ثقافة العيب بالمرتب الشهري العالي، وبالتالي فإن معظم الشباب سيقبلون هذا العرض من وجهة نظري الشخصية؛ لأن الراتب مغر جدا، والشاب السعودي متى ما وجد التقدير والاحترام في المرتب وتقدير عمله سيبدع ويقدم على هذه الأعمال».
ويضيف الحسني: « الشباب السعودي لم يحجم ويقاطع الأعمال الصغيرة أو المهنية إلا بسبب ضعف رواتبها، وأنا أعلنها من هنا: متى ما وجدنا المرتبات المغرية فإن جميع الأعمال الشريفة سنقدم عليها، وهذه الوظيفة «قهوجي» من الأعمال المحببة لي، فمن منا لا يعرف تقديم القهوة للضيوف! وبالتالي سيفتح هذا الإعلان باب الرزق لنا من جديد، ونتمنى أن نجد عروضا أكثر للشباب في المستقبل لهذه الوظائف التي تحضنا أحيانا على عدم القبول، وهنا نكون تغلبنا على العيب والعادات الاجتماعية بالقبول والرضا منا كشباب».
ويؤكد سامي قاحص، 19 عاما، وطالب جامعي قبوله لهذه الوظيفة، ويعتبرها فرصة كبيرة للشباب لكسر العيب الوظيفي « نعم سأقبل بهذا العرض ولن أتردد في القبول به، فالمرتب الشهري المغري سيجعلنا لا نتحرج في العمل بهذه الوظيفة أبدا، لا سيما أن عاداتنا وتقاليدنا تحتم علينا أحيانا عمل القهوة وتقديمها للضيوف أو في الرحلات البرية والكشتات، وهنا أؤكد أن هذه الوظيفة ستجد تسابقا كبيرا من قبل الشباب للحصول عليها».
تغيير قناعات
ويقول فهد الفطيني، 21 عاما، وعاطل عن العمل: «لا أعتقد أن أحدا سيرفض هذا العرض ولو أنني أشك في صحته، ولكن متى ما كان عرضا جادا وقويا وصحيحا فإنني لن أتردد في قبوله إطلاقا»، وذكر أن «وظيفة «قهوجي» ليست عيبا لنا بقدر ما أن هذه الوظيفة غير موجودة كمهنة رئيسة في مجتمعنا أو القطاع الخاص بشكل كبير إلا القليل، وبالتالي فإن طبقة معينة نراها أحيانا تقبل بهذه الوظيفة، ولكن هذا العرض سيغير قناعاتنا تجاه هذه الوظائف التي يعتقد البعض أنها عيب، فالمرتب الشهري الكبير الذي سيتقاضاه الشاب سينسيه نظرة المجتمع القاصرة تجاه مثل هذه الوظائف، ومن هنا نكون قد أعلنا اتجاهنا لتلك الوظائف والمهن، ولكن بشرط رفع مرتباتنا وستجد من الشباب السعودي في المستقبل الخباز والدهان والنجار والسباك والقهوجي وغيرها من الوظائف والمهن التي استولى عليها الأجانب بقوة في السوق السعودي نظرا إلى إحجام الشباب عنها نتيجة تدني مرتباتها من جهة والعيب الاجتماعي من جهة أخرى».
العائد المادي يحدد القبول
من جانب آخر يؤكد الخبير الاقتصادي فضل البوعينين أن «النظرة الدونية إلى مثل هذه الوظائف حاليا بدأت تتلاشى نسبيا خاصة من قبل الشباب، وبدأت هذه الوظائف تلقى ترحيبا كبيرا من هؤلاء الشباب»، ويضيف «بعض المهن الشاقة والمتعبة التي تحتاج إلى جهد وعمل أحيانا في الخارج وفي المناطق الحارة مثل البناء، نجد الشباب يقبلون على هذه المهن إذا وجدوا عائدا ماديا جيدا لهم، وهذا ما رأيناه في الأعمال الإنشائية خاصة في مكة المكرمة على سبيل المثال».
ويشير البوعينين إلى أن «المهن الأخرى مثل وظيفة قهوجي مثلا نجدها موجودة في مجتمعنا، فعلى سبيل المثال صالات الأعراس في المنطقة الشرقية تعج بالكثير من الشباب الذين يعملون في هذا المجال من ضيافة وغيرها، ونجدهم يقطعون المسافات البعيدة التي يصل بعضهما إلى 200 و250 ألف كيلو للعمل في هذا المجال، حيث تصل رواتبهم الشهرية إلى نحو 7.000 ريال شهريا، ومن هنا فإن الشباب متى ما وجد العائد المالي كبيرا لوظيفته فإنه حتما سيقدم على تلك المهن التي كان ينظر لها المجتمع بدونية، فالعائد المادي هو المؤشر الحقيقي لقبول العمل من عدمه»