حكمة الملك فيصل رحمه الله
ضمن مذكرات الواليبي التي تنشرها الشرق الأوسط ، أوقفتني الحلقة الأخيرة لهذا اليوم ، بمواقف رائعة لأسطورة العصر ، الملهم الملك فيصل ، ونضاله الإسلامي ، وذكائه المفرط ، هذه الفقرة :
كيف استطاع الملك فيصل أن يغيّر رأي ديغول وموقفه من إسرائيل ودعمها بالسلاح ؟
ـ يعرف عن ديغول أنه يغيّر مواقفه إذا عرف الحقيقة ; ولذلك كنت حريصاً على تدبير لقاء الملك فيصل به ، ولكن كان له ولأخيه خالد موقف من ديغول ، على خلفية استقباله لهما في مطلع 1945 في مكتبه في لندن بشيء من الجفاء ، ودعمه لليهود .
ولذلك كنت ألحّ ـ الكلام للدواليبي ـ على الملك فيصل أن يقابله إلى أن حدث ذلك في باريس قبل 5 (حزيران)1967، وكان اللقاء على غداء فقط .
وكان ديغول يراعي الحِمْية في الطعام والشراب والنوم وأوقاته منضبطة محدّدة ; ولذلك استقبله قبل نصف ساعة من الغداء بالضبط في قصر الإليزيه ، وكان مع فيصل الأمير سلطان والدكتور رشاد فرعون .
وطلع فوراً إلى اللقاء ، رأساً لــرأس ، ولا يـوجد معهما سوى مترجم من عند ديغول .
قال ديغول :
يتحدث الناس بلهجة متعالية أنكم يا جلالة الملك تريدون أن تقذفوا بإسرائيل إلى البحر . إسرائيل هذه أصبحت أمراً واقعاً، ولا يقبل أحد في العالم رفع هذا الأمر الواقع .
فأجابه فيصل :
يا فخامة الرئيس ، أنا أستغرب كلامك; إن هتلر احتل باريس وأصبح احتلاله أمراً واقعاً، وكل فرنسا استسلمت إلا أنت! فانسحبت مع الجيش الإنجليزي، وبقيت تعمل لمقاومة الأمر الواقع حتى تغلّبتَ عليه. وألمانيا تنتهز الفرصة من وقت لآخر لخلافها معكم على منطقة الألزاس. كلما احتلتها وقف الشعب الفرنسي ينتظر حرباً عالمية ليستعيدها، فلا أنت رضخت للأمر الواقع ولا شعبك رضخ; فأنا أستغرب منك الآن أن تطلب مني أن أرضى بالأمر الواقع . والويل عندئذ يا فخامة الرئيس للضعيف من القوي إذا احتلّه القوي وراح يطالب بالقاعدة الذهبية للجنرال ديغول أن الاحتلال إذا أصبح واقعاً فقد أصبح مشروعاً.
فدهش ديغول من سرعة البديهة والخلاصة المركّزة بهذا الشكل، وكان ديغول لم يستسلم ويتراجع، وإنما غيّر لهجته متأثراً بما سمع،
وقال:
يا جلالة الملك، لا تنسَ أن هؤلاء اليهود يقولون: إن فلسطين وطنهم الأصلي، وجدهم الأعلى إسرائيل وُلِد هناك.
قال فيصل:
فخامة الرئيس أنا من الأشخاص الذين يعجبون بك ويحترمونك ; لأنك رجل متدين مؤمن بدينك، وأنا يسرني أن ألتقي بمن يخلص لدينه، وأنت بلا شك تقرأ الكتاب المقدس. أما قرأت أن اليهود جاءوا من مصر غزاة فاتحين، حرّقوا المدن وقتلوا الرجال والنساء والأطفال، ما تركوا مدينة إلا أحرقوها، فكيف تقول إن فلسطين بلدهم، وهي للكنعانيين العرب، واليهود مستعمرون. وأنت تريد أن تعيد الاستعمار الذي حققته إسرائيل منذ أربعة آلاف سنة، فلماذا لا تعيد استعمار روما لفرنسا الذي كان قبل ثلاثة آلاف سنة؟ أنصلح خريطة العالم لمصلحة اليهود، ولا نصلحها لمصلحة روما عندما كانت تحتل فرنسا والبحر الأبيض كله وإنجلترا أيضاً؟ ونحن العرب أمضينا مائتي سنة في جنوب فرنسا، في حين لم يمكث اليهود في فلسطين سوى سبعين سنة ثم نفوا بعدها. وهذا مثال تاريخي أيضاً.
قال ديغول:
ولكنهم يقولون: في فلسطين وُلِد أبوهم.
قال فيصل:
غريب!! عندك الآن مائة وخمسون دولة لها سفراء في باريس، وأكثر السفراء يولد لهم أولاد في باريس، أفلو رجع هؤلاء السفراء إلى بلادهم، ثم جاءت ظروف صار فيها هؤلاء السفراء رؤساء دول، وجاءوا يطالبونك باسم حق الولادة بباريس، فمسكينة باريس، لا أدري لمن ستكون؟!. هنالك،
سكت ديغول، وضرب الجرس مستدعياً بومبيدو، وكان جالساً مع الأمير سلطان والدكتور رشاد فرعون في الخارج،
وقال له :
الآن فهمت القضية الفلسطينية، أوقفوا السلاح المصدَّر لإسرائيل.
وهكذا قُطع السلاح الفرنسي عن إسرائيل منذ ذلك اليوم من عام 1967 قبل الغزو الثلاثي لمصر بأربعة أيام.
تحياتي لكم جميعا
ودمتم سالمين
Iyq