الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
قال تعالى : {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (112) سورة هود
أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة النبي صلى الله عليه وسلم الرحيم وأمته المرحومة للاستقامة على شرع الله ونهاهم عن الطغيان فالله جل وعلا يريد منا الاستقامة بلا طغيان وهي التمسك بالمأمورات وترك المنهيات والطغيان هو: مجاوزة الحد المشروع .
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير الآية السابقة " تبين أن الاستقامة بعد الطغيان وهو مجاوزة الحد والمقصود من العبد الاستقامة وهي السداد فإن لم يقدر فالمقاربة " وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل "
جمع في هذا الحديث الشريف مقامات الدين كلها فأمر بالاستقامة وهي السداد والإصابة في النيات والأقوال وأخبرهم أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة صاحبها فلا يركن أحد إلى عمله وإنما نجاته برحمة الله وغفرانه وفضله .
ولنتأمل قوله تعالى فاستقم كما أمرت " أي لا تستقم كما تهوى نفسك بل استقم كما أمرك ربك والنفس قد تهوى الإفراط أو التفريط ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه والواجب علينا أن نتحرى التوسط والاعتدال بحيث لا تقصير ولا غلو كما قال تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال ابن جرير رحمه الله " الوسط في هذا الموضوع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين بتوسطهم في الدين فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى و لا أهل تقصير فيه تقصير اليهود ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه إذ كان أحب الأمور إلى الله أوساطها " .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في الوسطية " وضابط هذا كله العدل وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة بل لا تقوم مصلحة البدن إلا به .
فإنه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل وجاوزه أو نقصه منه سلب من صحته وقوته بحسب ذلك وكذالك الأفعال الطبيعية كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة أو الخلوة والمخالطة وغير ذلك إذا كانت وسطا بين الطرفين المذمومين كانت عدلا وإن انحرفت إلى أحدهما كانت نقصا وأثمرت نقصا قال القحطاني رحمه الله في نونيته " كن في أمورك كلها متوسطا ... عدلا بلا نقص ولا ميلان "
قال الشاطبي رحمه الله " الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه فهكذا تجد الشريعة أبدا في مواردها ومصادرها جارية على هذا الترتيب الوسط المعتدل فإذا نظرت إلى كلية من كليات الشريعة فتأملتها وجدتها حاملة على التوسط
قال الإمام الأوزاعي رحمه الله : " ما من أمر أمر الله به إلا عارض الشيطان فيه بخصلتين ولا يبالي أيهما أصاب الغلو أو التقصير "
وقال الطحاوي رحمه الله " دين الله في الأرض والسماء واحد وهو دين الإسلام وهو بين الغلو والتقصير "
وعن بريدة ابن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " عليكم هديا قاصدا - قالها ثلاثا – فإن من يشاد هذا الدين يغلبه " رواه الإمام أحمد وصححه الألباني
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " هلك المتنطعون " قالها ثلاثا رواه الإمام مسلم .
والمتنطعون هم المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم وأما المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فليسوا متنطعين ولا متشددين بل هم المستقيمون على شرع الله ودينه الذي رضيه الله لهذه الأمة ويسره لها قال سبحانه وتعالى {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (43) سورة الزخرف
وعن محجن بن الأدرع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن خير دينكم أيسره " قالها ثلاثا رواه الإمام أحمد
فيجب على المسلمين عموما وعلى الشباب خصوصا أن يستقيموا على شرع الله بلا غلو وطغيان فلا تقصير عن الاستقامة فيقع في التفريط ولا يجاوز الحد فيقع في الإفراط والتفريط لا يخفى أمره على المتقين ولكن الإفراط يخفى على بعض الصالحين فأهل الاستقامة يخشى عليهم من الغلو والطغيان ولذا كثرت النصوص من الكتاب والسنة المحذرة من ذلك فقد نهانا الله عز وجل عن الغلو كما نهى الذين من قبلنا قال تعالى " {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ ....} الآية (171) سورة النساء
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنهم أهلكوا بالغلو فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه سلم قال : " إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " رواه النسائي
فالغلو في الدين ضرره عظيم وشره مستطير وآثاره سيئة للغاية على الغالي نفسه وعلى أسرته وعلى مجتمعه وأمته والعياذ بالله
ومن أعظم أسباب الغلو
أولا / الجهل بالدين لا سيما إن كان الغالي من أنصاف المتعلمين أو من يجعل نفسه من المجتهدين غلطا فيضل ويضل بغير علم وهو يحسب أن يحسن صنعا أو كان من المجتهدين في علم من العلوم الشرعية ولكنه لا يتأدب مع العلماء السابقين ولا العلماء اللاحقين ولا يتسع صدره للخلاف معهم في مسائل الاجتهاد ويريد أن يلزم الناس بقوله طغيانا وظلما .
ثانيا / ومن أسباب الغلو عدم مراعاة المصالح و المفاسد وهذا راجع إلى الجهل أيضا فمن المقرر عند العلماء الراسخين أنه يجب ارتكاب أدنى المفسدتين للسلامة من أعلاهما ويجب ترك إحدى المصلحتين لتحصيل أعلاهما وكذلك درء المفاسد مقدم على جلب المصالح
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله " لا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا معا ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا " .
وهناك صور سيئة للغلو والطغيان نذكر طرفا منها من باب التحذير :
أولا / التعسير والتشديد على النفس والناس والشريعة جاءت بالتيسير والتحذير من التعسير قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (107) سورة الأنبياء .
وقال تعالى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ .....} الآية (78) سورة الحـج
وقال تعالى : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ......} الآية (185) سورة البقرة
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا " رواه البخاري ومسلم
ثانيا / من صور الغلو الغلظة والجفاء وسوء الخلق فلقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أحسن الناس أخلاقا قال تعالى : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم
وقال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ...... } الآية (159) سورة آل عمران
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من يحرم الرفق يحرم الخير "
ثالثا / سوء الظن بلا برهان والغيبة والنميمة والبهتان قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا .....} الآية (12) سورة الحجرات
قال عمر رضي الله عنه " لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا وأنت تجد لها في الخير محملا " .
رابعا / الجدل والمخاصمة والتباغض والهجران قال صلى الله عليه وسلم : " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم{وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (58) سورة الزخرف .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من ترك المراء وهو محق بني له بيت في وسط الجنة " رواه الترمذي وحسنه .
قال الأوزاعي رحمه الله " إذا أراد الله بقوم شرا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل "
خامسا / النهي عن التفرق والاختلاف قال تعالى : {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ .....}الآية (103) سورة آل عمران
وقال : { فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (1) سورة الأنفال
وقال تعالى : { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (46) سورة الأنفال
والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة وفي غيرها هو التفرق والاختلاف ورعاية هذا الباب من أعظم أصول الإسلام ولهذا كان امتياز أله النجاة من أهل العذاب من هذه الأمة بالسنة والجماعة .
سادسا / الظلم وعدم الإنصاف قال تعالى : { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } (135) سورة النساء
وقال تعالى : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (90) سورة النحل
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي لا لمجرد الاجتهاد فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ " ولذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال في الفتنة وكان ذلك من أصول أهل السنة وبالإنصاف يقل الخلاف ويحصل الائتلاف ولكن كما قال الإمام مالك رحمه الله " الإنصاف في زماننا قليل " فكيف لو رأى زماننا ...!!
السابعة / التضليل والتفسيق و التكفير بلا برهان قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (58) سورة الأحزاب
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من دعا رجلا بالكفر أو قال عدوا الله وليس كذلك إلا حار عليه " رواه مسلم .
وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي : سلطان غشوم ظالم و غال في الدين يشهد عليهم ويتبرأ منهم " رواه أبي عاصم في السنة وصححه الألباني
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
خطبة جمعة / 24/2/1432 هـ.
محبكم / عطا الله بن عبد الله