عقوق الوالدين
قال الله تعالى وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا أي برا بهما وشفقة وعطفا عليهما إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما أي لا تقل لهما بتبرم إذا كبرا وأسنا وينبغي أن تتولى خدمتهما ما توليا من خدمتك على أن الفضل للمتقدم وكيف يقع التساوي وقد كانا يحملان أذاك راجين حياتك وأنت إن حملت أذاهما رجوت موتهما ثم قال الله تعالى وقل لهما قولا كريما أي لينا لطيفا واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا وقال الله تعالى أن اشكر لي لي ولوالديك إلي المصير فانظر رحمك الله كيف قرن شكرهما بشكره قال ابن عباس رضي الله عنهما ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها أي إحداهما قول الله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه الثانية قول الله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه الثالثة قول الله تعالى أن اشكر لي ولوالديك فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه ولذا قال النبي رضى الله في رضى الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين وعن ابن عمرو رضي الله عنهما قال جاء رجل يستأذن النبي في الجهاد معه فقال النبي أحي والداك قال نعم قال ففيهما فجاهد مخرج في الصحيحين فانظر كيف فضل بر الوالدين وخدمتهما على الجهاد وفي الصحيحين أن رسول الله قال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين فانظر كيف قرن الإساءة إليهما وعدم البر والإحسان بالإشراك وفي الصحيحين أيضا أن رسول الله قال لا يدخل الجنة عاق ولا منان ولا مدمن خمر وعنه قال لو علم الله شيئا أدنى من الأف لنهى عنه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار وقال لعن الله العاق لوالديه وقال لعن الله من سب أباه لعن الله من سب أمه وقال كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه يعني العقوبة في الدنيا قبل يوم القيامة وقال كعب الأحبار رحمه الله إن الله ليعجل هلاك العبد إذا كان عاقا لوالديه ليعجل له العذاب وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان بارا بوالديه ليزيده برا وخيرا ومن برهما أن ينفق عليهما إذا احتاجا فقد جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله إن أبي يريد أن يحتاح مالي فقال أنت ومالك لأبيك وسئل كعب الأحبار عن عقوق الوالدين ما هو قال هو إذا أقسم عليه أبوه أو أمه لم يبر قسمهما وإذا أمره بأمر لم يطع أمرهما وإذا سألاه شيئا لم يعطهما وإذا ائتمناه خانهما وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن أصحاب الأعراف من هم وما الأعراف فقال أما الأعراف فهو جبل بين الجنة والنار وإنما سمي الأعراف لأنه مشرف على الجنة والنار وعليه أشجار وثمار وأنهار وعيون وأما الرجال الذين يكونون عليه فهم رجال خرجوا إلى الجهاد بغير رضا آبائهم وأمهاتهم فقتلوا في الجهاد فمنعهم القتل في سبيل الله عن دخول النار ومنعهم عقوق الوالدين عن دخول الجنة فهم على الأعراف حتى يقضي الله فيهم أمره وفي الصحيحين أن رجلا جاء إلى رسول الله فقال يا رسول الله من أحق الناس مني بحسن الصحبة قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال ابوك ثم الأقرب فالأقرب فحض على بر الأم ثلاث مرات وعلى بر الأب مرة واحدة وما ذاك إلا لأن عناءها أكثر وشفقتها أعظم مع ما تقاسيه من حمل وطلق وولادة ورضاعة وسهر ليل رأى ابن عمر رضي الله عنهما قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة فقال يا ابن عمر أتراني جازيتها قال ولا بطلقة واحدة من طلقاتها ولكن قد أحسنت والله يثيبك على القليل كثيرا وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله أربعة نفر حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها مدمن خمر وآكل الربا وآكل مال اليتيم ظلما والعاق لوالديه إلا أن يتوبوا وقال الجنة تحت أقدام الأمهات وجاء رجل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه فقال يا أبا الدرداء إني تزوجت امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها فقال أبو الدرداء سمعت رسول الله يقول الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه وقال ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده وقال الخالة بمنزلة الأم أي في البر والإكرام والصلة والإحسان وعن وهب بن منبه قال إن الله تعالى أوحى إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه يا موسى وقر والديك فإن من وقر والديه مددت في عمره ووهبت له ولدا يوقره ومن عق والديه فصرت في عمره ووهبت له ولدا يعقه وقال أبو بكر بن أبي مريم قرأت في التوراة أن من يضرب أباه يقتل وقال وهب قرأت في التوراة على من صك والده الرجم وعن عمرو بن مرة الجهني قال جاء رجل إلى رسول الله فقال يا رسول الله أرأيت إذا صليت الصلوات الخمس وصمت رمضان وأديت الزكاة وحججت البيت فماذا لي فقال رسول الله من فعل ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلا أن يعق والديه وقال لعن الله العاق والديه وجاء عن رسول الله قال رأيت ليلة أسري بي أقواما في النار معلقين في جذوع من نار فقلت يا جبريل من هؤلاء قال الذين يشتمون آباءهم وأمهاتهم في الدنيا وروي أنه من شتم والديه ينزل عليه في قبره جمر من نار بعدد كل قطر ينزل من السماء إلى الأرض ويروى أنه إذا دفن عاق والديه عصره القبر حتى تختلف فيه أضلاعه وأشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة المشرك والزاني والعاق لوالديه وقال بشر ما من رجل يقرب من أمه حيث يسمع كلامها إلا كان أفضل من الذي يضرب بسيفه في سبيل الله والنظر إليها أفضل من كل شيء وجاء رجل وامرأة إلى رسول الله يختصمان في صبي لهما فقال الرجل يا رسول الله ولدي خرج من صلبي وقالت المرأة يا رسول الله حمله خفا ووضعه شهوة وحملته كرها ووضعته كرها وأرضعته حولين كاملين فقضى به رسول الله لأمه موعظة أيها المضيع لآكد الحقوق المعتاض من بر الوالدين العقوق الناسي لما يجب عليه الغافل عما بين يديه بر الوالدين عليك دين وأنت تتعاطاه باتباع الشين تطلب الجنة بزعمك وهي تحت أقدام أمك حملتك في بطنها تسعة أشهر كأنها تسع حجج وكابدت عند الوضع ما يذيب المهج وأرضعتك من ثديها لبنا وأطارت لأجلك وسنا وغسلت بيمينها عنك الأذى وآثرتك على نفسها بالغذاء وصيرت حجرها لك مهدا وأنالتك إحسانا ورفدا فإن أصابك مرض أو شكاية أظهرت من الأسف فوق النهاية وأطالت الحزن والنحيب وبذلت مالها للطبيب ولو خيرت بين حياتك وموتها لطلبت حياتك بأعلى صوتها هذاوكم عاملتها بسوء الخلق مرارا فدعت لك بالتوفيق سرا وجهارا فلما احتاجت عند الكبر إليك جعلتها من أهون الأشياء عليك فشبعت وهي جائعة ورويت وهي قانعة وقدمت عليها أهلك وأولادك بالإحسان وقابلت أياديها بالنسيان وصعب لديك أمرها وهو يسير وطال عليك عمرها وهو قصير هجرتها ومالها سواك نصير هذا ومولاك قد نهاك عن التأفف وعاتبك في حقها بعتاب لطيف ستعاقب في دنياك بعقوق البنين وفي أخراك بالبعد من رب العالمين يناديك بلسان التوبيخ والتهديد ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد لأمك حق لو علمت كثير كثيرك يا هذا لديه يسير فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنة وزفير وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غصص منها الفؤاد يطير وكم غسلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير وتفديك مما تشتكيه بنفسها ومن ثديها شرب لديك نمير وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حنانا وإشفاقا وأنت صغير فآها لذي عقل ويتبع الهوى وآها لأعمى القلب وهو بصير فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقير حكي أنه كان في زمن النبي شاب يسمى علقمة وكان كثير الاجتهاد في طاعة الله في الصلاة والصوم والصدقة فمرض واشتد مرضه فأرسلت امرأته إلى رسول الله إن زوجي علقمة في النزع فأردت أن أعلمك يا رسول الله بحاله فأرسل النبي عمارا وصهيبا وبلالا وقال امضوا إليه ولقنوه الشهادة فمضوا إليه ودخلوا عليه فوجدوه في النزع فجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله ولسانه لا ينطق بها فأرسلوا إلى رسول الله يخبرونه أنه لا ينطق لسانه بالشهادة فقال النبي هل من أبويه أحد حي قيل يا رسول الله أم كبيرة السن فأرسل إليها رسول الله وقال للرسول قل لها إن قدرت على المسير إلى رسول الله وإلا فقري في المنزل حتى يأتيك قال فجاء إليها الرسول فأخبرها بقول رسول الله فقالت نفسي لنفسه فداء أنا أحق بإتيانه فتوكأت وقامت على عصا وأتت رسول الله فسلمت فرد عليها السلام وقال لها يا أم علقمة أصدقيني وإن كذبتي جاء الوحي من الله تعالى كيف كان حال ولدك علقمة قالت يا رسول الله كثير الصلاة كثير الصيام كثير الصدقة قال رسول الله فما حالك قالت يا رسول الله أنا عليه ساخطة قال ولم قالت يا رسول كان يؤثر علي زوجته ويعصيني فقال رسول الله إن سخط أم علقمة حجب لسان علقمة عن الشهادة ثم قال يا بلال انطلق واجمع لي حطبا كثيرا قالت يا رسول الله وما تصنع قال أحرقه بالنار بين يديك قالت يا رسول الله ولدي لا يحتمل قلبي أن تحرقه بالنار بين يدي قال يا أم علقمة عذاب الله أشد وأبقى فإن سرك أن يغفر الله له فارضي عنه فوالذي نفسي بيده لا ينتفع علقمة بصلاته ولا بصيامه ولا بصدقته ما دمت عليه ساخطة فقالت يا رسول الله إني أشهد الله تعالى وملائكته ومن حضرني من المسلمين أني قد رضيت عن ولدي علقمة فقال رسول الله انطلق يا بلال إليه وانظر هل يستطيع أن يقول لا إله إلا الله أم لا فلعل أم علقمة تكلمت بما ليس في قلبها حياء مني فانطلق فسمع علقمة من داخل الدار يقول لا إله إلا الله فدخل بلال فقال يا هؤلاء إن سخط أم علقمة حجب لسانه عن الشهادة وأن رضاها أطلق لسانه ثم مات علقمة من يومه فحضره رسول الله فأمر بغسله وكفنه ثم صلى عليه وحضر دفنه ثم قام على شفير قبره وقال يا معشر المهاجرين والأنصار من فضل زوجته على أمه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا إلا أن يتوب إلى الله عز وجل ويحسن إليها ويطلب رضاها فرضى الله في رضاها وسخط الله في سخطها فنسأل الله أن يوفقنا لرضاه وأن يجنبنا سخطه إنه جواد كريم رؤوف رحيم
كتاب الكبائر_محمد بن عثمان الذهبي
من ايميلي