قصور البنات
لأعترف قبل كل شيء.. أنني انثى عنيدة، وشاحبة كأوراق الكتب القديمة. عاشرت أصابعي
الحبر طويلاً وركضت عيوني على آلاف الصفحات بحثاً عن هدف غامض ورجل غامض، ربما
اسمه المهدي، وربما هارون الرشيد. وإذا أردت أن أخفف عنكم، أقول أنا أنثى مسحورة بأشياء
كثيرة، ومسكونة بامرأة تشبهني أستطيع أن أبوح بأنها امرأة غريبة مخيفة. وقد تكون قد عاشت
من قبل. تدخن النرجيلة في المساء، وفي الليل تزحف فوق المخمل، تتلمس بأصابعها أعشابه
السرية السوداء وتنتظر أمطاره السماوية.
قلت لكم بأنني مسحورة بأشياء كثيرة ومسكونة بأكثر منها. قد يثير ذلك لديكم الدهشة
لتفاهته وقلة اكتراث الآخرين به. كزمرة دمي، لا شيء إلا لأنها سلبية، ونادرة لذا اعتبرتها
مقدسة فقد قال لي صديقي الطبيب الذي يعرف جنوني واهوائي يوماً:
-زمرة دمك زرقاء وهذا يعني أنك من سلالة نبيلة، فمن أين تحدرت إليك؟
-لا أعلم.. قهقهت بصوتي.. فنصف عائلتي مجانين.
-والنصف الثاني؟
على وشك الجنون
تذكري من أين جاءك النبل..؟
أنا مختلطة الدماء، فربما جاءتني من جدة بعيدة جاؤوا بها سبية من القفقاس.
-وربما
من جسد لي جاء من أرمينيا يبحث عن أقاربه، ربما كنت أميرة عباسية من سلالة الرشيد
دمها ممزوج من كل عروق البلاد المفتوحة، وربما أكون بر مكية من جعفر أو الفضل.
-أتحبين التاريخ إلى هذا الحد؟!
-وأكثر
-من هنا يأتي الجنون
-أو الحكمة
وضحكنا أنا وصديقي الطبيب، وهكذا كنت أحمل دماً أزرق، أحرص على اللعب به دون
اعتبار أو خوف من الآخرين، فقبل سنوات بعيدة جاءت عائلتي إلى هنا وسكنت العائلة في بيت
متواضع ظهره إلى سور المدينة العتيق، وإذا أردت التحديد اطل من سور المدينة التي بناها المنصور
على شكل بغداد صغرى. كان ابي موظفاً صغيراً، وأمي امرأة حالمة، لا ترى في العالم سوى بيتها
وأسرتها. قد تجلس أحياناً على باب البيت مع بعض الجارات.
أما أنا فقد كنت مبهورة بكل شيء، العشب البري الذي ينبت في الربيع فوق أسطحة
المنازل الترابية والتل الذي يقف شامخاً أمام بيتنا حيث كنت أقضي وقتاً في جني باقة من أزهاره
البرية، كنت مبهورة باحجار القرميد الضاربة إلى الحمرة أو الصغيرة وبالناس الذين يحبون شرب
الشاي، والدخان، مبهورة بالمساحات الواسعة للبيوت لأن التل لم يكن تلاً من تراب فحسب،
وإنما يتوجه من الأعلى، ما بقي من إطلال بناء ما زالت بعض أوابده تتحدى الزمن، وفصول
السنة، وتعديات الأهالي. في أحد الأيام.. سألت جارنا العجوز الذي كان يجلس كل يوم عصراً
إلى جانبه وهو يدخن النرجيلة ويشرب الشاي ويسعل متأملاً كل ما حوله بمتعة واهتمام، هذا
العجوز الذي علمني كيف أمسك خرطوم النرجيلة وأقرقع بالمياه واسحب منها حتى يضيق
صدري فانفث الدخان مرة بعد أخرى بدأت أشاركه الشاي والنرجيلة ونتحدث...
أهذا البناء قديم يا عمي...؟
-ايه يا ابنتي قديم قبل أن أخلق...؟
-أوه يا عمي فهو قديم جداً.
-ضحك وهو يأخذ مني خرطوم النرجيلة....
-خربوه.. نهبوا حجارته، وبنو منازلهم الوضيعة التي أمامنا هذه..
-وماذا كانوا يسمونه؟ يا عمي؟
- يسمونه.. وهز برأسه- قصور البنات.
- وأي بنات يا عمي؟
بنات هرون الرشيد.. ويقولون يا ابنتي إن خزائن الرشيد مدفونة فيه.
قالها ثم بدأ السعال الذي لا ينتهي منه عادة إلا بذرف الدموع.. وناولني خرطوم النرجيلة.
هذا الرجل المسن، كان يعاملني كشابة كبيرة، يستفقدني إذا غبت عنه يحكي لي عن هرون
الرشيد، وعن الرقة وسكانها الأصليين وعن الوافدين وعن بيوتها القديمة، وكيف ساهم في بناء
الجسر العتيق، هذا الجسر الذي عتقوه لكثرة ما أطلقوا عليه الجسر العتيق، رغم أني وجارنا
العجوز ما زلنا نراه الأجمل.. حين نخرج إليه صباحاً وحين نتعب نجلس على رصيفه وكأننا في
قارب والمياه الخضراء السريعة تمر من تحتنا... هذا الجسر الرائع، الذي كان أول جسر للعالم
الثاني، فلولاه لبقيت الرقة بقعة مجهولة.. وعليه مر الآلاف من البشر قادمين ومغادرين.
رفع جارنا العجوز يديه قائلاً: بيدي هاتين نقلت إليه الحديد.. والاسمنت. تركت له متابعة
الحديث، وانسحبت إلى الطرف الاخر من الحارة أراقب التل والحجارة، والعشب، وقد رسمت في
عينيَّ صور بنات الرشيد وسط الجواري والوصيفات، ينتقلن من غرفة إلى غرفة، عبر الردهات،
والسراديب، ورائحة العطر تعبق من أردانهن وعند حافة البركة تقف امرأة تشبهني تجلس على
طرف البركة، تلهو بأقدامها التي تزينها رسوم الحناء، تلعب بمياه البركة، ويداها تعبثان بسلسلة في
أسفلها معلق قلب فارغ. ومرت الأيام ونشبت بيني وبين تلك الأطلال علاقة قوية. فأنا أجلس
هناك أتلمس الأحجار أرى الأقواس والنوافذ التي لا زالت عامرة... وأحياناً أسمع همسات
الجواري.. ضحكاتهن وأشم عطراً غامضاً يهب من فتحة الحمام محملة بتنهيدات حارة اصغي
إليها.
في يوم من الأيام جاء رجال غامضون وقفوا فوق التل يستعرضونه. رجال شقر شباب
وكهول يلبسون لباساً يختلف عن لباس رجال مدينتي... يتحدثون بكلمات لا أفهمها، وقد
أصابت الدهشة معظم الجوار.. إلا صديقي العجوز الذي قال بلهجة عادية: سواح.. إنهم سواح
أجانب قليلاً ويرحلون لكن الرجال عادوا في اليوم التالي. بنوا خياماً في الساحة المجاورة لمنزلنا،
وبدؤوا يفردون أوراقهم، وخرائطهم كان الوقت صيفاً... يدققون في الخطوط والأشكال يقيسون
المسافات يضحكون أو يعبسون.. وبعد أيام استأجروا عمالاً، وبدؤا بالحفر وترحيل الأتربة
وبدأت تتكشف معالم جديدة لقصري، ردهات طويلة جدران.. دهاليز وغرف.. والرجال الشقر
يتابعون عملهم بهمة عالية، وتصميم دون اعتبار للحر، أو التعب، وقد علمت أنهم بعثه المانية
مهتمه بالآثار الإسلامية، جاءت للتنقيب في هذا التل. ويوماً بعد يوم، ألف الأهالي وجود الرجال
الشقر بينهم أما أنا فكنت أراقب ما يجري بمتعة وخوف.. وفي أحد الأيام اقترب مني أحد الرجال
الشقر... كثيراً أما كنت أقف بجانبه أعطيه ماءاً أو أناوله ازميلاً صغيراً يشير إليه في الحقيبة
المفتوحة.. أو ابتسم له، فيرد علي. إنه "جون" هذا الشاب الجميل أشقر الشعر.. عيناه زرقاوان..
أسنانه كانت تثير في الابتسامة، فإذا ما فتح شفتيه كنت أسترق النظر إليها.. كان يتردد كثيراً إلى
بيتنا.. تعلمت منه بعض الكلمات بينما هو التقط بعض المفردات العربية التي ينطق بها أحياناً
لكثرة ما تجول في بلدي. اقترب مني.. جلس بجانبي على الأرض، ورفع طاقية حمراء كتب عليها
باحرف ألمانية كبيرة، اسم الشركة التي يعمل بها.. وضعها على رأسي مما شجعني كي أقترب منه،
وأسأله:
-هل وجدتم شيئاً؟
-ضحك وقال: أوه... شيء.. أشياء كثيرة.
-وأين هي؟
-ألا ترينها أمامك؟! إنها ثروة كبيرة.
-كنت أريد الوصول إلى ما يشغلني كي أستعيد صورة هرون فسألته:
صحيح ما يقال عن هذا البناء؟
-وماذا يقال؟
-إنه كان قصراً لبنات الرشيد وفيه كنوزه مخبأة.
-ضحك هذه المرة "جون" ضحكة صاخبة ومديده إلى رأسي، كي يبعثر شعري ثم قال:
-هذا كلام صحيح، إنما غير دقيق.
- وأنت ماذا ترى؟ أقصد البعثة...
- حتى الآن نستطيع أن نقول: إن هذا البناء ربما يكون. وهذا غير أكيد قصراً لأحد أثرياء
تجار الرقيق.. كان يستخدمه لطالبي اللهو، والمتعة أو اللذين يريدون شراء الجواري النادرات..
إنه يعد بمثابة دار،أو معهد لتعليم الموسيقا.. الرقص الأدب.. الغناء.. ضاقت عيناي، وتقطب
حاجباي حين انهى "جون" جملته الأخيرة.. فذهبت إلى منزلنا. جلست في الغرفة.. أحسست
بأشيائك الكثيرة يا هرون تغادرني.. هززت كل ما لدي من قناعات وأحلام. تراجعت إلى الوراء
كثيراً.. أصبحت وحيدة وسط فراغ قاتل.
أهكذا يتحول رشيدي إلى نخاس يتاجر بالرقيق الأبيض. أهكذا يتحول قصره إلى مجرد دار
لطالبي المتعة واللهو ولذة الجواري..
صرخت بنفسي كملتاعة.. مهزومة.. منكسه.
لم أصدق كل ما قاله جون.. كنت أتابع حفرياتهم، وأنا أتمنى أن يظهر ما يبدد أوهامي وكل
يوم كنت أصادف مندوب مديرية الآثار، فأسأله:
-ألم يجدوا جديداً
-كل يوم نجد شيئاً جديداً.
وما هي وظيفة هذا البناء؟
وماذا يهمك أنت من وظيفة البناء؟!
أريد أن أعرف، هل كان حقاً داراً لطالبي المتعة واللهو؟
وهل تكرهين هذا..؟
-لا بل أكره أن يكون هرون من النخاسين
- عسى أن يحقق الله حلمك، فنجد ما يقلب توقعاتنا.. ولا يكون البناء داراً للمتعة.
مرّ أكثر من شهر وأنا أترقب الجديد.. وأتابع معهم الحفريات وأسمع نقاشهم وتحليل الحروف
ومقارنتها.
واتى جون لمنزلنا راكضاً يناديني بعربيته المكسرة.
- تعالي لك خبر سار عندي.
- ما هو هل رأيتم رشيدي؟!
-لا لا.. اكتشفنا شيئاً جديداً سيفرحك.
-ما هو...؟
قادني من يدي حتى أدخلني البناء وأشار إلى عمودٍ عليه كلمات لم أعرف ماهي؟ وأحرفها
غريبة.
التفت إلى "جون" متسائلة:
-إنه عمود عليه شعار المؤسسة التي ينتمي إليها البناء "ووظيفته التي تهمك.
- ما هي؟
لقد كان البناء مشفى، فالشعار الذي على العمود يؤكد ذلك، فلقد رأينا مثله في دمشق.
-مشفى؟! قلتها بفرح واستغراب.
-نعم مشفى للمجانين.. فالبناء هو "بيمارستان" هكذا تقول الأحرف التي على العمود.
-بيمارستان؟!
ركضت إلى التل الذي ما يزال يطل على البناء.. هناك تربعت على الأرض.. انظر إلى البناء. فما
زالت البركة تتوسطه، بينما الجواري تدخل إلى غرفه، وتخرج من دهاليزه.. ورجال.. وعبيد كثر،
وقوافل تغادر وأخرى تحط أمتعتها وتدخل لترتاح فيه وتخرج. ضحكات من الممرات وأبخرة
الحمام تصعد غيوماً فوق رأسي.. وتصل إلى أنفي رائحة عطور قريبة من نفسي... ولا زالت تلك
المرأة التي تشبهني تجلس على طرف البركة وقدماها المزينتان بالحناء.. في الماء، بينما يداها تلهوان
بسلسلة معلقة بعنقها تنتهي بقلب فارغ، وطاقية جون الحمراء لا زالت على رأسي.. ألم أقل لكم
إنني أنثى مجنونة...؟ مسكونة؟ مسحورة؟ ما زالت تنتظر المهدي، أو هارون الرشيد، كي يملأ
فراغ ذاك القلب المعلق بسلسلة تلك الجارية المضمخة بالحناء من رأسها حتى قدميها.