بلا اتجاه
للكاتب: أنا راحل
حرك الرماد المتخلف من رسائلها المحترقة بعود صغير، فانقلبت ورقة لم تحترق بالكامل، استطاع أن يلمح فيها عبارة ( فتنطلق روحانا إلى أبواب السماء)، نخسها بعوده ليعيدها إلى الجذوة الراقصة ويراقب حروفها وهي تتلوى وتذوي.
عندما احترقت آخر ورقة، رفع عينيه إلى الأفق أمامه وجعل يرقب خط التقاء السماء القاتمة مع الكثبان الرمادية، ولسعه الهواء البارد الذي يهب بعنف حاملا ً ذرات الرمل، منذرا ً بعاصفة مطيرة.
نهض ومشى متثاقلا ً تغوص قدماه في رمال النقرة التي أودع باطنها حبه، دفن هنا أجمل أيامه وولى، حرق هنا كل ما يذكره بها، رسائلها، خصلة شعرها، الكرت المزخرف المعطر، القلم الجاف الذي نقش عليه الحرفان الأولان من اسميهما.
ركب سيارته وانصفق الباب بدفع الريح التي بدت بدورها وكأنها تصفعه وتصفع سيارته بالرمل، قبع في الدفء خلف الزجاج يرقب هياج الريح خارجه ويسمع أنينها، ورأى من مكانه بقايا الرماد الذي خلفه والرياح تحمله لتذروه في مكان بعيد.
بدأت قطرات المطر تشارك الرمل في صفع زجاجه، تساءل بحزن ما هذا أيتها الريح ألا يكفي أنك ِ أدمعت ِ عيني بذرات الرمل حتى تبصقي علي الآن، طفر الدمع من عينيه فلم يمنعه تركه ينزلق على خديه، ليتخلل منابت لحية لم يحلقها منذ أسبوع.
وهناك، بين كثبان رملية ضخمة ترقد شمال الرياض، ووسط وادي قفر لم يذق رائحة المطر منذ سنين، وتحت زخات مطر مدرار، نسي حلفه بأن لا يبكيها، نسي رجولته الوليدة، نسي كبريائه وأنفته، وانطوى في مقعد سيارته الضيق ضاما ً رجليه إلى صدره كجنين خرج من بطن أمه قبل أوانه، وترك عينيه وأنفه تجودان بمائهما كما جادت السماء في ذلك اليوم المدلهم من حياته.
* * *
لو تركنا حمد قليلا ً لنفسه، ورجعنا بالزمن لنفهم ما الذي حدث، وما الذي جعل شخص ذو شخصية لاذعة ومحببة، وقدرات رائعة، يتحول إلى هذا الإنسان فاقد الحيلة الذي يلجأ إلى بطن وادي قحل يبثه همومه وشجونه ويبكي فيه بكاء كبكاء المسجون بذنب غيره، بكاء كله حرقة وعدم فهم لما حل به، فحمد لو رجعنا له قليلا ً لرأيناه يبكي ويكلم نفسه كأنه يحاول أن يشرح لها أسبابا ً لبكائه لم تفهمها، حتى تعينه في الضغط على الغدد الدمعية لتسخو بكل ما عندها وبكل ما احتبسته منذ خط شاربه.
سنتركه الآن، ونعود بالذاكرة إلى اليوم الذي تعرف فيه حمد إلى منتدى (( أقلام بلا اتجاه )) كأفضل بداية لسرد حكايتنا.
.
.
أن أحببتم ..
سأستمتع .. بوضع أجزائها لكم ..
لتشاركوني روعتها ..