منقول من جريدة الوطن للكاتب علي الموسى واصفاً حادثة قتل اب لأبنته في الايام الماضية
[الموؤودة: مقطع من يومها الأخير (1)
الثانية عشرة وعشر دقائق، منتصف النهار: جرس المدرسة يعلن نهاية يوم دراسي ومعه انطلقت بشائر الطالبات هرجاً وفرحاً بالعودة لأحضان والدين ولأركان منزل. جلست - شرعا - واجمة فاحمة وتسللت تحت الطاولة الأخيرة في ذات الفصل: كان صوت الجرس يتغلغل في أحشائها مثل طعنة سكين. كان الجرس بالنسبة لها موعداً يومياً مع وجبة العذاب الدائمة على يد والدها فكانت المدرسة هدنة مؤقتة للملمة الجراح ما بين السابعة والربع حتى الثانية عشرة وعشر دقائق. لم تسمح سنوات - شرعا - التسع بمزيد من الخيال ولم يكن عقلها الصغير يسمح لها بشيء من الحيلة كي تتجنب كل قصص المأساة التي تنهال على جسد طفلة من أربعيني قالت لها الحياة إنه الأب. لم تكن شرعا حتى بين العشرين الأول في فصل هي به الواحدة والعشرون. كانت المدرسة لها مجرد رحلة هروب إلى مفترقين: هدنة قصيرة بين فصول العذاب، وأخرى لتسرق بها نظرات بائسة موغلة في الحزن لصورة أمها المطلقة وهي تسحبها بين فينة وأخرى من درجها لتبثها الهمس الباكي الحزين: أين أنت، وأين كل شهم على هذه الأرض من قصة - سنوات تسع - لا تعرف فيها غير أصوات سلسلة من حديد مزقت عظامها إلا من فاصل قصير بين طابور الصباح وجرس نهاية المدرسة.
تكورت - شرعا - تحت الطاولة. حاولت أن تتمرد على الخروج. اطمأنت قليلاً لنجاح الحيلة. عشرون دقيقة من السكون حتى قاطعها ميكرفون الحارس المدرسي: شرعا.. شرعا.. شرعا.. شرعا.. شرعا.. وهنا عرفت مصيرها المحتوم فوالدها على بوابة المدرسة.
أخرجوها من تحت الطاولة ذابلة مثل أرنب يشاهد لمعة السكين. ومع خطوتها الأولى خارج باب المدرسة كان شعرها في يد والدها وكان يحملها به نصف متر إلى السماء وأرجلها إلى جاذبية لا تسمح بالاقتراب من الأرض. برجله اليسرى، ركلة واحدة على أسفل الظهر فاستقرت بالمقعد الخلفي مثل كرة طائشة. عند كل إشارة حمراء بالطريق للمنزل، كان والدها يستثمر الانتظار: يفتح الباب ثم يهوي عليها بعقال أسود غليظ: كان صراخها يصل لجاذبية السماء فلا يصل لكل الطابور أمام الإشارة فأوقات بهائم الأرض لا تقاس بإنسانية قلب، بل بالوقت الفاصل بين الإشارة الحمراء والخضراء. وصلت للمنزل: ركلة هائلة بالقدم اليمنى على أسفل الظهر: للمرة الأولى، فقدت شرعا حركة نصفها السفلي. يأمرها الوحش بالوقوف. تحاول تنفيذ أمره فلا تستطيع مع خوفها من عصيان الأوامر. يسحبها بشعرها طول - الدرج - حتى أوصلها لحمَّام التعذيب. ما زالت شرعا تقاوم الحياة: تسمع صوت السلسلة الحديدية فتضع يديها خوذة على ما استطاعت من الرأس. ضربة أولى تهشم يديها، وأخرى وأخرى... تشرب دماءها التي تسيل وهي عطشى تقاوم الرمق الأخير وتستحلب الحياة. تمضغ أسنانها المتهشمة مع نزيع الموت. خمس وعشرون دقيقة من الآلام والعذاب والمأساة حتى وصل ملك الموت.
حسبي الله ونعم الوكيل
والله هذا مافيه ذرة رحمه
وعند الله تجتمع الخصوم