السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في 29 أيار سنة 1988 تمّ بنجاح زرعُ قلب ، في صدر سيّدة اسمها كلير سيلفيا، عمرها 48 سنة، تلقّته من جسد شاب عمره 18 سنة قُتل في حادث درّاجة ناريّة. شيء غريب يبدو أنّه شقّ طريقه إلى شخصيّة سيلفيا ومزاجها، وهي راقصة. فإنّهابعد عملية الزرع، أخذت تشتهي شرب البيرة وأكل الفليفلة الخضراء الحلوة والدجاج المقليو هى اكلات لم تكن لها رغبة تُذكر فيها.اضافة إلى ذلك، اكتسبت سيلفيا سماتٍ شخصيّةً محيِّرة، بما في ذلك ميل جنسي ناشط. بدت، في القلب الجديد، الذي انزرع في صدرها، أدنى إلى شاب في سن الثامنة عشرة من امرأة في منتصف العمر. مالت إلى السفر والتجوال في أوروبا لأسباب لا تدري ماهيتها. سنة 1997 كتبت سيلفيا كتاباً تبسّطت فيه في الأمر وعنونته "تغيير في القلب" صدَر في بوسطن عن ليتل، براون وشركاه. واشتدّ الأمر غرابة عندما شعرت سيلفيا بأنّها في حال وصال نفساني مع شاب الحرفان الأولان من اسمه هما "ت" و "ل". شيئاً فشيئاً ترسّخت في نفسها القناعة أنّ ت. ل. هو الذي أُعطي لها منه قلبُها الجديد ورئتاها. طبعاً لم تكن سيلفيا على علم، بحال، بمَن يكون الشخص الذي أُخذ منه قلبُها. مستشفى يال – نيو هايفن تكتّم في الأمر سوى أنّ الشخص الذي أعطوها قلبَه قضى في حادث درّاجة ناريّة في ماين. وأخذت أحلام سيلفيا تنشط. فلما تسنّى لها، أخيراً، أن تقيم اتصالاً بذوي الشاب القتيل تبيّن أنّ اسمه كان تيم لاسال وأنّ المزايا التي أشارت سيلفيا إليها كانت بعينها مزايا الشاب. من ذلك مثلاً أنّه كان محبّاً لمعاقرة البيرة وتناول الفليفلة الخضراء وخصوصاً الدجاج المقلي.
و في تموز 2003، عرضت محطة ديسكوفري التلفزيونية للشؤون الصحّية برنامجاً وثائقياً مسهباً في الموضوع عينه بعنوان "زرع الذكريات". من بين تلك الحالات واحدة لافتة، بصورة خاصة، وهي حالة فتاة عمرها 8 سنوات تلقّت قلب فتاة قُتلت عمرها 10 سنوات. بعد زراعة القلب بفترة قصيرة أخذت الفتاة المتلقّية تعاني أحلاماً مروِّعة في شأن الرجل الذي قتَل الفتاة المعطية. شعرت الفتاة المتلقّية في نفسها، بعد حين، بأنّها تعرف القاتل مَن يكون. أخذتها أمّها إلى محلّل نفساني. بعد عدّة جلسات لم يتمكّن المحلّل من نقض ما كانت تفضي به الفتاة. على الأثر تقرّر مراجعة البوليس في الشأن المطروح. فلمّا زُوِّدت الدوائر المختصّة بالمعلومات في مَن يمكن أن يكون القاتل، تحرّك البوليس على أساسها وقبض على المجرم. هذا وقد أدلى المحلّل النفساني الذي ساعد الفتاة المتلقّية بالتصريح التالي: "الوقت والسلاح والمكان والثياب التي كان المجرم يلبسها وما قالته له الفتاة القتيل، كل ما نقلته الفتاة التي تلقّت قلب القتيل كان دقيقاً بالكامل".
بنتيجة مثل هذه الظواهر المستغربة طرح عدد من العلماء والدارسين مفهوماً جديداً في علم الطب هو الذاكرة الخلويّة "cellular memory ". هذا يحدّدونه من حيث هو الفكرة أنّ خلايا أجسادنا تحتوي معلومات في شأن شخصيّاتنا وأذواقنا وتواريخنا. كأن خلايانا الحيّة قابلة لأن تتذكّر وتنبئ عن مزايا للجسد الذي تنتمي إليه. رغم أنّ العديد من العلماء لا زال في وضع المشكّك والمراقب في تعاطي ما يُقال، فإنّ عدد المهتمّين بـ "المفهوم الجديد" آخذ في الازدياد. أحد المتحمّسين له، الدكتور Paul Pearsall في أميركا، مقتنع بأنّ للقلب، بخاصة، نوعاً من الذكاء الخاص به، وهو يعتبر أنّ للخلايا ذاكرة خاصة وهي تتواصل على نحو يتخطّى المكان والزمان. ويعتقد الدكتور Pearsall أنّ القلب يتعاطى معلومات عن الجسد والعالم الخارجي من خلال شِيفرةِ طاقةٍ معلوماتيةٍ هي عبارة عن شبكة خلايا وأوعية دمويّة تؤدّي وظيفة نظامِ انتشارٍ وبنيةٍ لجمع وتوزيع طاقة المعلومات. إلى ذلك يؤكّد الدكتور Pearsall أنّ للنفس علاقة، أقلّه جزئية، بمجموعة من المذكّرات الخلويّة التي تحملها قلوبنا بكثافة.
الدكتورة Candace Pert في أميركا، وهي أخصائية في الكيمياء الإحيائية، تبنّت القول إنّ لكل خليّة في جسدنا عقلَها الخاص بها بحيث إنّك إذا نقلت أنسجة من جسد لآخر فإنّ خلايا الجسد الأول سوف تحمل معها ذكرياتٍ إلى الجسد الجديد. كذلك اكتشفت الدكتورة Pert أنّ سمة، على الأقل، من سمات عقولنا تتوزّع على غير أعضاء عبرَ جسدِ الإنسان. فلقد وجدت أنّ الدماغ والجسد يتبادلان الرسائل من خلال سلاسل قصيرة من الحوامض الأمينيّة المعروفة بـ "neuropeptides" ، وكذلك من خلال أجهزةِ تلقٍّ للإشارات. هذه السلاسل الحمضية الأمينيّة، كان معروفاً، في السابق، أنّها لا توجد إلاّ في الدماغ. غير أنّ Pert ومعاونيها اكتشفوا أنّ هذه السلاسل موجودة أيضاً في كل الجسم البشري، خصوصاً في أبرز أعضاء الجسد كالقلب.
موضوع الذاكرة الخلويّة لم يدخل بعد حلبة الاستقصاء العلمي الجدّي، لكنّه، بكلام Kate Ruth Linton ، إحدى اللواتي يتابعن الأمر بجدّية، يستحقّ ذلك بكل تأكيد. الظواهر التي استبانت، نتيجة الحالات التي سُلِّط عليها الضوء، لا يمكن إسقاطُها بسهولة ولا غضُّ الطرْف عنها. الآتي، على صعيد الاستطلاع العلمي، يشير إلى مزيد من البحث في الموضوع. وإذا ما انطرح موضوع "الذاكرة الخلويّة" فالنظرة إلى زرع الأعضاء لا يمكن أن تبقى إيّاها كأنّ المتلقّي حَسْـبُه اللحم أو العظم من المُعطي. إذا ما ثبت أنّ سجل الإنسان، كلِّ إنسان، هو في كل خليّة من خلاياه وأنّ الذاكرة هي في كل الجسد لا في موقع في الجسد دون سواه، فإنّ هذا يستتبع موقفاً جديداً من العلاقة بين المعطي والمتلقّي. مَن يعطي، والحال هذه، لا يعطي معلومات وحسب بل ميولاً واتجاهات. يعطي من روحه كما ترسَّبتْ واستقرّ أثرُها في كل خليّة من خلاياه. المتلقّي إذاً يتلقّى، أيضاً، نزعاتٍ أخلاقيةً وأهواء وميولاً سالبة أو موجبة قد تؤثّر في مجمل سيرته. وفي هذا الإطار لا يسعنا، كمؤمنين، ما دام أنّ ثمّة علاقة دينامية قائمة بين مجمل شخص المعطي والمتلقّي، أقول لا يسعنا سوى أن نتساءل ما إذا كان من حقّنا، أو موافقاً لنا، أن ندخل في علاقة، على هذه الدرجة من الحميمية الروحيّة، مع مَن نعطيه، أو مَن يستعير أعضاءنا؟ أليس في الأمر انتهاكاً لفرادة الإنسان؟ أمن حقّنا أن نقتحم الآخرين أو نقبل اقتحامهم لنا عن وعي أو عن غير وعي؟ أيأخذ الإنسان في جسده نزعات لا يرغب فيها يمكن أن تدفعه في الاتجاه الذي لا يسوّغه لنفسه؟ ماذا يعطيني المجرم إذا استعرتُ قلبه؟ ماذا يعطيني اللواطي؟ ماذا يعطيني المدمن على المخدّرات؟ مَن يحمل المسؤولية إذ ذاك؟ أما يمكن أن تَفسُدَ حياة المتلقّي إذا ما اقتبل نزعات آثمة شرّيرة تشدّه، رغماً عنه، في اتجاه أو في آخر؟ هذه تساؤلات قد تبدو مبالغاً فيها، لكن واقعَ أنّ الإنسان، بزرع عضو غريب عنه في بدنه إنما يستعير تاريخاً من الأجيال والنزعات الشخصيّة ينبثّ في لحمه ودمه، أقول هذا الواقع يحتّم علينا المباشرة بالنظر في موضوع زرع الأعضاء من زاوية غير الزاوية التي اعتدنا عليها إلى الآن!
( منقول )