هكذا ليكن حافظ القرآن
عايض بن محمد العصيمي *
أهل القرآن هم أهل الله وخاصته عقولهم راقية، قلوبهم خاشعة، نفوسهم زكية، وجوههم منورة، ألسنتهم طاهرة، اصطفاهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) رواه البخاري.
تجارتهم مع الله تعالى وحده، ولا شك أن من تاجر مع الله ربح وغنم، (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ).
سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، نعم.. كان خلقه القرآن كيف لا؟! وقد مدحه الله بحسن الخلق فقال عز من قائل: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
وهكذا تعلم أصحابه رضي الله عنهم أجمعين هذا الخلق فكان الواحد منهم قرآناً يمشي على الأرض، فهم جيل تخرج من مدرسته عليه الصلاة والسلام الذي قال هو عن نفسه: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه البخاري.
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان صدر هذه الأمة وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله ما معه إلا السورة أو شبه ذلك، وكان القرآن ثقيلاً عليهم، ورزقوا العمل به، وأن آخر هذه الأمة يخفف عليهم القرآن حتى يقرأه الصبي والأعجمي فلا يعملون به).
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وينهاره إذا الناس مفطرون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبتواضعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون).
وعن مجاهد رضي الله عنه: قال عند قوله تعالى: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ) يعملون به حق عمله.
وعن الفضيل بن عياض رحمه الله قال: (حامل القرآن حامل راية الإسلام.. لا ينبغي له أن يلغو مع من يلغو ولا يسهو مع من يسهو ولا يلهوا مع من يلهو).
وعن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: (إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها في النهار).
كل هذه رسائل لمن حفظ القرآن الكريم.. وفي اعتقادي أن الإنسان كلما ازداد علماً وحفظاً للقرآن الكريم وعملاً به ازداد تواضعاً وليناً مع الناس.
تأملوا هذا الموقف الذي حصل لي شخصياً.. كنت أجلس في أحد فنادق الرياض الشهيرة يوم الثلاثاء 11-6-1431هـ مع اثنين من أصدقائي الأخيار والعجيب كلاهما اسمه: إبراهيم الرشيد.. (إبراهيم الرشيد أبو سطام، وإبراهيم الرشيد أبو ناصر) وقد تأخر الوقت ليلاً.. بينما نحن كذلك إذ دخل شيخ يحمل مشلحه تحت إبطه يدخل بكل هدوء، ويمشي بكل سكينه ووقار، يجلس ينتظر إذن دخوله للفندق بقرب جلستنا.. نقوم كلنا لسلام عليه فهو يستحق ذلك.. ويقوم هو لنا بالسلام.. يبتسم.. يرحب بنا يحيينا ويجلسنا معه في جلسته بكل خلق وكرم.. ابتسامته لا تفارق وجهه أبدا.. كلامه جميل لا ينتهي.. كأنني أعرفه منذ زمن طويل.. وجدت به عطفاً وحناناً مشهوداً إذ جلس يهنئني بالسلامة ويواسيني حيث إنني كنت أصحب عكازاً في يدي بعد أن أجريت عملية بقدمي والحمد لله على كل حال.. مازحني ببيت من الشعر قال: (إنما الشيخ من يدب دبيباً).. خجلت أمام أخلاقه الرائعة الطيبة، إذ أخلاق الكبار.. إنه شيخ حفظ القرآن وأفنى عمره فيه.. صلى خلفه ملايين المصلين.. صوته يسحر القلوب.. تلاوته بلغت الآفاق، له قرابة ربع قرن وهو إمام للمسجد الحرام إنه فضيلة الدكتور عبدالرحمن السديس -حفظه الله- ووفقه قمة في تواضع، القرآن أثر في خلقه وسمته وتواضعه وحديثه مع الناس كلهم، الجميع يتمنى السلام عليه بعد كل صلاة بالحرم المكي، ويتمنون الجلوس معه ولو بضعاً من الوقت.
جلسنا وقتاً ماتعاً مع فضيلته، تحدثنا بكل شفافية ووضوح بعد أن أهديت له كتابي (خلاصة الكلام في الرؤى والأحلام) ثم جرنا الحديث عن عالم الرؤى والأحلام وكان منصفاً في بابه، اقترحت عليه أن يخطب فيه، ووعدني أن يخطب عن هذا العلم وتعلق الناس بهذا وهو يكرر عبارة سأخطب عنكم ممازحاً. نعم.. أحبتي: تعلمت في تلك الجلسة مع الشيخ الفاضل الدكتور عبدالرحمن السديس أن من تربى على القرآن الكريم علم نفسه التواضع كيف يكون..
وتعلمت أنه ينبغي لحافظ القرآن الكريم أن ينشغل بإصلاح نفسه وأهله، حافظاً للسانه وكلامه، متميزاً في تعامله، كاسباً للجميع، متواضعاً للكل، غير متجهم ولا غضوب ولا فظ غليظ.. ما أجمل أخلاق الكبار (التواضع) ممن أثر فيهم العلم والقرآن في قلوبهم إذ هو يجمل أخلاق الرجال.
كم من حافظ للقرآن والقرآن يلعنه.. اهتم الكثير من الحفاظ وللأسف بالمظهر وتركوا الجوهر والمبطن إن الناس لا تقاس بالأشكال ولا بالألوان ولا بالصوت وجماله ولا بالحفظ وإتقانه ولا بالعلم وحده ولا بزي باهر ومشلح يلبس كلا: بل إن الناس تقاس بأخلاقها وقمة صدقها وتواضعها مع الآخرين وصدق شوقي حين قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
قال عليه الصلاة والسلام (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) رواه أحمد أبو داود.. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
بقلم فضيلة الشيخ
عايض بن محمد العصمي
جريدة الجزيرة
العدد 13763
الجمعة 21 جمادىالآخرة 1431هـ