[c]كان أول من أمس يوماً مختلفاً عن كل ما سبق للرياض أن شهدته، ومؤذناً، للمرة الأولى، أن تكون التفجيرات عامل وحدة في الشارع السعودي، بعد أن كانت الأعمال الإرهابية، سابقاً، تخلق حالة انشقاق بين معارض لها، ومتعاطف معها، أو حتى متوقف عندها.
أبرز ما يمكن ملاحظته على الناس، بعد تفجير مجمع المحيا، هو سحابة من الوجوم الثقيل تتكاثف على ملامح الناس، وتفيض من نظراتهم، بما في ذلك قطعان الفضوليين، التي كان هاجسها الدائم والمباشر، الاستمتاع بالفرجة، ومن ثم رواية الأحداث بتفاصيل أكثرها مختلق من باب الإثارة والتشويق.
وعلى الرغم من أن "عملية السويدي" فجر الخميس الماضي كشفت عن عواطف متناثرة، ميالة إلى الإرهابيين، إلا أن "عملية المحيا" نسفت، ضمن ما نسفت، كل الأصوات المؤيدة لــ"القاعدة" وإن حسُن ظنها. وطمرت عواطف مشبوبة تجاه الإرهابيين، كانت تظنهم مجاهدين، وصادقي الإيمان، وإن أخطأوا الطريق، وأراقوا دماء الأبرياء في سبيل القضية الكبرى!
تفجير مجمع المحيا كان مفاجئاً من حيث اختيار الهدف، لا من حيث التوقيت وطبيعة العمل، ذلك أته لا ينتمي إلى منظومة الأهداف التقليدية لــ"القاعدة"، ولا يؤدي، تالياً، أية رسالة ذات مضمون محدد مهما كانت متطرفة ودموية الطابع. كان عملاً يتنافى مع أي حس إسلامي، وإن تخفى خلف ستار من التأويلات المتعسفة للآيات القرآنية، والأحاديث النبوية.وزاده شذوذاً واستنكاراً انتحار أثنين من المطلوبين في مكة، وفي شهر رمضان بحجة حماية زملائهم من انكشاف أمرهم لو تم القبض عليهم. والانتحار يتنافى مع أولى المباديء الإسلامية، وأكثرها أساسية. لذلك كانت عملية الانتحار خطوة فتحت أعين الناس على ضلال طريق هذه الجماعات، ثم جاء تفجير "مجمع المحيا" ليغسل قلوبهم مما ران عليها من وهم وعماء موقت، خصوصاً أنها جاءت في رمضان، وليلة خسوف القمر، واستهدفت المسلمين الآمنين، ومن معهم من"الذميين" أصحاب الحق في الحماية والرعاية، كما هو شأن المسلمين.
توشك صفحة الإرهاب أن تنطوي في السعودية، وإن خلفت وراءها خطاً دموياً ترسمه أجساد بريئة، شاء حظها أن تكون على مسار الإرهاب العشوائي والمتوتر. لقد بينت "عملية المحيا" أن الحكومة سيطرت إلى حد كبير على مراكز الشبكة الإرهابية، وأنها تمضي، قدماً، في نسل خيوطها، وتفكيك عقدها، ما أرهب الإرهابيين، وأربك مخططاتهم، ودفعهم إلى التخبط في محاولة لرفع معنويات بعضهم بعضاً، وتأكيد حضورهم، تماماً كما فعلوا ليلة الثاني عشر من آذار(مايو) بعد أن نجحت قوات الأمن في اختراق مجموعة الــ19. لكن الفرق هذه المرة أن الأجهزة الأمنية سدت عليهم المنافذ، واحتاطت لهم جيداً، فلما ضاقت بهم السبل، وأظلمت السماء أمامهم، وانخسفت الأرض تحت أقدامهم. فكان تهورهم وبالاً عليهم، وفضحاً لحقيقة أمرهم، إذ سلكوا مسلكاً يصعب توفير الحماية فيه ما لم تكن البلد خلواً من أهلها. وهذا إرهاب لا يشك أحد في هويته، ولا يختلف، على طبيعته الإجرامية إثنان.
ومن المتوقع أن تحاول الجماعات الإرهابية استهداف شخصيات رسمية أو حتى مواقع تجارية ومجمعات سكنية. وبغض النظر عن نجاحها في مثل ذلك فإنها تثبت فشلها وانحسارها وإن طالت رقصة الذبح بعض الوقت.
كما استفادت الحكومة إذ استعادت ثقة مواطنيها بخطابها الرسمي، بعد أن كان عرضة للتشكيك، بسبب لغته البيروقراطية، وتأخره، وقصوره في تقديم المعلومات الوافية.
في الانترنت اختلف الحال، وبعد أن كانت سمة منتديات الانترنت الميل إلى الانتقاد والمخالفة، تبدلت اللغة جذرياً. ويمكن القول أن الوحدة الوطنية تبدت جلية في الموقف الذي جمع الطرفين المختلفين دوماً: الإسلاميين والليبراليين، ليقفوا صفاً واحداً، وليتحدثوا بلسان واحد، ولغة نازفة بالتعاطف المطلق مع الحكومة، والعداء الشامل لمنفذي التفجير، وإن امتاز الإسلاميون بحرارة الخطاب وفيض الحماسة، وشدة النبرة الناقمة باعتبار أن بعضهم كانوا مخدوعين بالتيار الجهادي. ويستطيع المتصفح لأهم منتديين في الانترنت وهما؛ "الساحات" السلفي المتشدد، و"طوى" الوطني الليبرالي، أن يكتشف غياب اللغة الناقدة لتحل مكانها أخرى متعاطفة ومؤيدة، وفي الوقت ذاته، شديدة النقمة على الإرهابيين، وواضحة في نبذهم وضرورة القضاء عليهم نهائياً، وهو لم يكن ظاهراً حتى ما بعد "عملية السويدي".
وقال أحد الأعضاء في "الساحة السياسية": "... ووالله مالم نكن على غاية الشجاعة في نقد هذا المسلك المعوج عن الجادة، فالجميع سيدفع الثمن غالياً".
وكتب آخر في "طوى": " أقسم أننا سنصبح جزائر أخرى".
وفجّر التلفزيون السعودي، عبر قناته الأولى، قنبلة ايجابية، شكلت سابقة في طبيعة عمله الروتيني، إذ قدم نقلاً حياً من موقع الانفجار، وواصل بث التغطية المتميزة حتى الفجر. وكان التلفزيون السعودي، منذ عام 1979، مغيباً عن أي عمل مهني، ولم يستفد من خدمات البث المباشر خارج إطار نقل صلاة الجمعة، ومباريات الدوري الرياضي المحلي.لكن التلفزيون السعودي كان سيء الحظ، ذلك أن هذه الخطوة التاريخية حُرمت حظها من المجد والذيوع بسبب تقديم قناة "العربية" تغطية حية أيضاً، تميزت بالاحترافية والحيوية. هذا التوافق لا يمكن أن يكون عفوياً، على الأقل، بحكم أن الموقع يخضع لحراسة أمنية مشددة يستحيل معها أن تنجح كلتاهما في اختراقه، عدا أن التلفزيون الرسمي لا يتحرك وفق المتطلبات المهنية، بل خضوعاً لأوامر مباشرة، ما يؤكد وجود توجه رسمي علي المستوى، صادر في الأغلب عن وزارة الداخلية؛ ممثلة في وزيرها الأمير نايف بن عبدالعزيز، أو نائبه محمد بن نايف. المهم أن هذه الخطوة تشير إلى نزوع نحو الشفافية، والتعامل الصريح والواضح مع الأحداث والوقائع حال حدوثها، سواء تم التخطيط لها مسبقاً، أم أنها وليدة اللحظة، وهي في هذه الحالة أكثر أهمية وأعمق دلالة.
وأظهرت قوات الأمن براعة في سرعة الوصول إلى موقع الانفجار، وتطويقه بالكامل، وهي مهارة لا يضاهيها سوى قدرة الفضوليين على التجمهر في المكان ذاته، ما أعاق حركة سيارات الإسعاف، وأخّرها عن القيام بواجبها، وإذا كان بعض الضحايا قد قضوا نتيجة تأخر إسعافهم، فإن الفضوليين يتحملون الذنب دينياً، والمسؤولية مدنياً.
اليوم عادت إلى الرياض روحها المطمئنة، كأنما تحررت من خوف كان يثقلها. ولا يكاد المتجول يشعر بأن هذه البلد مهددة، في أي لحظة، بعمل إرهابي يتحرك في مدار مفتوح؛ ابتداءا من مدارس الأطفال، وانتهاءا بالمستشفيات، لأن الطمأنينة هي الأغلب نتيجة الإيمان والثقة. ولعل مايشغل الناس الآن هو ترقب الأمطار بعد أن استقبلت مكة وجدة فوجها الأول في غزارة افتقدها الناس زمناً طويلاً. ويتفاءل كثيرون أن الخسوف كان علامة انطفاء الإرهاب وأن المطر سيجرف ماتبقى من شوائبه. [/c]