لقد وهبها الله جسداً له طراوة ورشاقة مميزتان، وكان يخيل للناظرين أن هذا الجسد البديع خال من أي مادة قاسية، ليس في هيكله عظام، كانت تملك ليونة ناعمة محببة. هكذا كانت فاتن منذ طفولتها، ابنه عائلة مميزة، من تلك العائلات الارستقراطية التي تقدس الطقوس، وتحترم مواعيد الطعام، وتعطي أهمية بالغة لربطات العنق وللقبعات الفاخرة، ولرحلات الاستجمام وشراء الثياب والعطور الفخمة من أوروبا...
وفي المدرسة الانكليزية في الرياض تلقت فاتن دروسها، وتفتحت موهبتها كراقصة باليه متميزة، حتى أن مدرستها الانكليزية أبلغت الإدارة أن هذه الفتاة معجزة في رقص الباليه، وهي لم تكمل الثامنة من عمرها، وسر الأهل لتفوق فاتن، فالباليه من المواهب الراقية التي تليق بالعائلات الارستقراطية، وفي الفيلا الفخمة المسورة كانت فاتن تلبس ثياب الباليه، وتصير فراشة، تطير من غرفة إلى غرفة، أو زهرة تتلوى على أنغام الموسيقى، كانت تذهل أهلها وزوارهم الكثر بليونة جسدها وطراوته، وتعبير وجهها المسافر بعيداً إلى فضاءات لا يحلمون ببلوغها، كانت تبكي أحياناً وهي تؤدي رقصتها بكل أحاسيسها، ذلك أن جسدها كان كتلة من الأحاسيس، لكأن طبيعته العادية في طريقها للعبور إلى طبيعة سديمية روحية، كانت قادرة أن تتوحد مع اللحن، فيصير جسدها رمزاً أسطورياً...
وحين بلغت فاتن الثانية عشرة، رشحتها مدرستها الانكليزية- المتخصصة في تدريب الفتيات الموهوبات في رقص الباليه- للاشتراك في مسابقة عالمية لرقص الباليه في باريس، ولم تصدق فاتن أن جسدها يملك كل تلك الطاقات المخزونة، وأنها مبدعة وقد تصير لها شهرة عالمية، وكادت تطير في شوارع المدينة، ودت لو ترقص لكل الناس ساعات وأياماً، بل عمرها كله، وأحست أنها كالعصفور الذي يغرد ويطرب الناس جميعاً... لكنها أطرقت بأسى وهي تعرف أنها لا تستطيع أن تخرج خارج سور الفيلا الفخمة...
لكن حدث ما لم تتوقعه أبداً في حياتها، ذلك أن للأسر الراقية طقوسها وقوانينها، فقد استدعاها والدها إلى مكتبه، وكان منشرحاً ومرحاً، وأخذ يدردش معها في مواضيع شتى، وتلوى حديثه حتى وصل إلى موهبتها الفذة في رقص الباليه، وذكّرها كم شجعها، ثم حكى لها عن أيام دراسته في واشنطن، كيف كان يستهويه شيئان لا ثالث لهما! الأوبرا والباليه، كانت تنصت سعيدة وهي تتأمل هذا الرجل الارستقراطي الناجح واللبق بفخر وحب، وصمت قليلاً وقد اتخذ وجهه تعبير من يفكر بعمق وقال لها: ولكن يا فاتن يجب أن نفكر بعقل.
واتسعت عيناها بدهشة وسألت بآلية: في ماذا؟
قال بلباقة أمير من القرون الوسطى: أنت فتاة ناضجة الآن، ورقص الباليه قد يكون له تأثيرات سلبية عليك...
ما كان بخار الألم قد بدأ يتكاثف غيوماً في نفسها بعد، ذلك أنها لم تفهم تماماً ما يريده الرجل الذي يفكر بعقل!
سألته: ماذا تعني يا أبي؟
ورد مرتبكاً رغم مداراته لمشاعرها وتظاهره بالمرح: أظن أن والدتك توضح لك الموضوع بأسلوب أفضل مني، ترك كلامه غباشة أمام نظرها وتشويشاً لذهنها، ولازمها طنين أو وشة في أذنها كصوت مذياع غير واضح، ورقصت في ذلك اليوم رقصة البجعة التي نازعت طويلاً ثم ماتت، وحين استلقت على الأرض في نهاية الرقصة كانت تبكي دموعاً مرة للمرة الأولى، ذلك أن حسها الطفولي الخام جعلها تدرك أنها ستكون قريباً تلك البجعة التي ماتت...
وحضرت السيدة الراقية تحتضن ابنتها، وأحكمت إغلاق الباب وراءها بحذر، كأن هناك من يتنصت عليها، وابتدرتها أمها بابتسامتها المرسومة بدقة على وجهها ذي البشرة الحريرية من تأثير مساحيق العناية بالبشرة الطبية والغالية، قالت لها: فاتن أظن أنك ستفهمين كلامي، وأظن البابا مهد لك بحديثه عن سلبيات رقص الباليه... سكتت قليلاً وهي تتأمل وقع كلامها على الوجه الطفولي المذهول، ثم أخذت نفساً عميقاً وتابعت بثقة: لقد صرت صبية يا فاتن، والباليه بحركاته الواسعة والعريضة، قد يعرض الفتيات لمشكلة في غاية الخطورة.
وارتجفت فاتن من الذعر وردت بآلية: الخطورة؟...
تابعت الأم: أجل يا عزيزتي، أنت تعرفين أن شرف الفتاة هو أهم شيء على الإطلاق، وأن الرياضة العنيفة، وكذلك رقص الباليه، قد يجعلانها تفقد هذا الشرف الثمين...
ضحكت فاتن ببراءة وقالت: أوه يا أمي أتخيل الذهب والألماس بكلمة ثمين...
ابتسمت الأم وداعبت رأس فاتن وقالت: بل أثمن بكثير من الذهب والألماس، إنه لا يقدر بثمن. قالت فاتن قلقة: ماذا تعنين بكلامك يا أمي، إنك تشوشينني، ماذا تقصدين؟!
ردت الأم بحزم: فاتن أنت صبية، بعد سنوات ستصيرين زوجة، ولن نترك هواية الباليه تفقدك شرفك، أوه ألم تفهمي بعد...
وهوت راقصة البالية التي لم تكمل الثالثة عشرة، وتحولت لهلام ملتصق على البلاط الرخامي وانسكبت دموعاً غزيرة على الوسادة الصماء، وشهدت رسوم ورق الجدران الفخم اختناق موهبة رائعة، واستنجد الجسد الطري المعجون بالموسيقى، يستجدي أصحاب العقول الراجحة كي يسمحوا له أن يعيش إحساسه وإبداعه، وأن ينمو ويحلق في سماء الفن، ولكن العائلات الارستقراطية تتبع أسلوب العقل والإقناع، والاحتلال، بهدوء وسلاسة، ولين مبطن بصرامة كالحديد، خنقت فاتن بحديث العقل، بمنطقه المحكم، كسلسلة حديد مقفلة، وصارت تتوه بأفكارها وعقلها يتوقف عند ذلك الشيء الذي لا يقدر بثمن، والذي هو أغلى من كل مجوهرات الأرض، والذي يمكن أن تخسره برقص الباليه!!
ولم يعد جسدها فراشة ولا عصفوراً ولا عطراً ولا موجة ولا غيمة، واستمرت حياتها تتابع بكآبة لطيفة محايدة، وقد استسلمت لحكمة العقل ورغم الأوقات التي كانت تبكي فيها بحرقة لاذعة، إلا أنها كانت تخشى أن تخالف حكمة العقل الذي يقدر الأمور أفضل منها، وهي المراهقة القاصر...
واعتبرت المدرسة الانكليزية انسحاب فاتن من فرقة الباليه جريمة، وليس مجرد خسارة، وفشلت جهودها في اقناع فاتن بالعودة إلى الرقص، كان جواب فاتن الوحيد نظرة شاردة حزينة وأحياناً كانت تجتر بلسانها فقط كلام أهلها الرزين الذكي والخانق.
ولأن الإنسان يخلق الأمل دوماً، أو هو الحيوان الوحيد الذي ابتدع شعوراً اسمه الأمل، فقد انتظرت فاتن أن تتزوج زوجاً يقدر موهبتها، ويسمح لها أن تمارس رقص الباليه، وكان لها ما أرادته وتحققت المعجزة، وتقدم لخطبتها شاب عربي عاش كل حياته في أوروبا، وله ولع غريب برقص الباليه والرقص التعبيري، وحين رقصت أمامه لم يصدق أن حبيبته تملك تلك المرونة الهائلة، ووعدها أنه سيقبل بشرطها الوحيد، ويتركها تمارس الرقص بعد الزواج، وسيكون فخوراً أن تشارك زوجته في المسابقات العالمية لرقص الباليه، بعد أن تقدم له ذلك الشيء الذي لا يقدر بثمن!
وعادت فاتن تنتعش وتزهر وتورق من جديد، وتألق وجهها بسعادة الإبداع والانطلاق، وتم الزفاف بأفخم أشكاله وكما يليق بأبناء العائلات التي تحترم الأصول والتقاليد، وتتباهى في البذخ وتقدس الشكليات، وسافر الزوجان إلى لندن لقضاء شهر العسل، وكانت المفاجأة التي حضرها لها زوجها رائعة فعلاً، فقد قدمها لأشهر مدربي رقص الباليه في لندن، ورقصت فاتن أمامه، وأكد لها المدرب أنها يمكن أن تكون من أشهر راقصات العالم على الاطلاق فيما لو تدربت بانتظام ولكن الزوج أجاب بابتسامة حضارية أنهما سيرجعان إلى الوطن بعد شهر...
بعد خمسة أشهر حملت فاتن، وأسعدها الحمل بقدر ما سبب لها غربة عن ذاتها، لأنها ستبتعد عن الرقص، لكن زوجها أكد لها أنه لا يمانع أن تتدرب على رقص الباليه بعد الولادة...
وأنجبت بنتاً حلوة، انصرفت لتربيتها، وبعد أشهر استعاد جسدها وضعه الأول المثالي للرقص، وحين همت بالانتساب لمعهد رقص الباليه، دعاها زوجها إلى عشاء رومانسي في مطعم لا تقصده إلا الأسر العريقة والتي تجيد التحدث بلغة العقل.
وبعد أن شرب نخب أحلى زوجة، وأجمل أم، وأروع راقصة باليه، وبعد أن تغزل طويلاً بزوجته الفنانة المبدعة، ابتسم طويلاً وانتهت ابتسامته بكلمة ولكن... وارتعبت فاتن وهي تتذكر "لكن" أمها، و"لكن" أبيها، ترى كيف ستكون "لكن" زوجها؟!
وعادت الغباشة تشوش نظرها، والطنين يصم أذنيها، وأتاها صوته رصيناً مع الموسيقى الهادئة التي يبثها المطعم:
-حبيبتي، أنت الآن أم، أم لطفلة رائعة، ولا يليق بأم أن ترقص شبه عارية أمام الناس، صدقيني يا حبيبتي أنا مؤمن بموهبتك، فأنت حقاً ظاهرة قلما تتكرر، ولكن هل فكرت بطفلتك، ماذا سيكون موقفها وأمها ترقص بثياب الباليه على المسرح ومئات العيون تتفرج على جسدها...
قاطعته مذعورة من اللاكن الجديدة وقالت: ولكن الباليه فن راق جداً، وجسد راقصة الباليه هو لغتها في التعبير...
وقاطعها بحزم: أعرف يا حبيبتي وأنا الذي أدمنت حضور حفلات الباليه، ولكن مجتمعنا، وكونك أماً، والأم تعني التضحية، يجب أن تضحي يا فاتن في سبيل ابنتك، فكري بعقلك يا فاتن، أن يكون عقلك كميزان الذهب دقيقاً للغاية...
وعاشت فاتن في مثلث على رأس كل زاوية منه كلمة -لكن- لكن الأم، ولكن الأب، ولكن الزوج، وهي في الداخل شعلة موهبة مختنقة لا تستطيع أن ترقص، وكلما تحركت اصطدمت بضلع قاس، فتاوهت وطنين لغة عقولهم يلاحقها ولا يرضى أن يسكت.
وأخذت تتساءل، أية لغة هذه لغة عقولهم، والطفلة الصغيرة ألا يسعدها أن تكون أمها راقصة مبدعة، وماذا لو تفرجت العيون على جسدها، ولماذا يصرون أن تكون لحماً رخيصاً يثير الغرائز بينما هي قادرة أن تكون سمفونية، وغزالاً رشيقاً، لماذا يصرون أن يكون جسدها عورة وهي تحسه قصيدة...
وحوصرت فاتن في كلمة لكن، في مئات الجمل التي تبدأ كلها بكلمة لكن، ومن وقت لآخر كانت رجفة مبهمة تجتاح جسدها، وأدركت وحدها أن جسدها يرتجف متألماً يشتاق أن يكون ذاته، ليحطم حلقات سلاسل الحديد التي طبعت على كل حلقة كلمة لكن، كانت تغمض عينيها وتحاول أن تفكر بعقولهم، ولم تدرك أن حزنها اشتد إلى درجة مخيفة، وأنه احتل الجسد الطيع اللين، وأن عقلها صار يئن تحت ثقل عقولهم يجرونه مجبراً ليفكر مثلهم، وبلغ بها الإرهاق حداً يصعب تحمله.
وذات مساء لبست ثياب راقصة الباليه، وأزاحت الستائر وفتحت النوافذ، وأخذت ترقص وترقص، وتحولت النافذة إلى مثلث لكن الأبدي، ووجدت نفسها تهرب منه، وذعر الناس وهم يرون راقصة باليه تطير من النافذة وتسمرت عيونهم عليها كالمسامير تنغرس في لحمها، وانفتحت أفواههم في وقت واحد وانطلقت كلمة واحدة من حناجرهم تردد صداها طويلاً...
لكن، لكن، لكن.