[align=center]
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
كانت الحياة الدنيوية لأشرف الرسل، وأكرم خلق الله، وخير البرية محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه، مثالاً وبرهاناً أن الله لا يختار الدنيا لأوليائه وأحبابه، وإنما يختار لهم الآخرة {وللآخرة خير لك من الدنيا}.
وكانت كذلك سلسلة متواصلة من الاختبارات والابتلاءات.
فقبل الرسالة نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في أسرة فقيرة فقد مات أبوه قبل أن يولد، ولم يترك له من الميراث إلا أمة هي أم أيمن رضي الله عنها.
وقـد عانت أمه حتى وجدت مرضعاً له، وبقي في كفالة جده عبدالمطلب ثم لم تلبث والدته حتى توفيت وهـو طفل صغير، ثم تبعها جده عبدالمطلب، فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى كفالة عمه أبي طالب، الذي كان فقيراً، كثير الأولاد، وهكذا نشأ النبي يتيماً فقيراً قد من الله عليه بالمأوى عند جده، ثم عمه. قال تعالى {ألم يجدك يتيماً فآوى}.
وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام أجيراً في رعي غنم الأثرياء من أهل مكة فقال: [رعيت الغنم على قراريط لبعض أهل مكة]، والقيراط عمله صغيرة في قيمة الفلس.
ولما شب لم يكن له مال ليتاجر فيه كأهل مكة الذين كانت التجارة هي عملهم الأساس. فإن مكة ليست ببلـد زرع، وإنما عيش أهلها على التجارة واستجلاب البضائع، والبيع في أسواق الحج.. وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالتجارة مرات قليلة في مال خديجة بنت خويلد رضي الله عنها. وكان أهل مكة يقارضون بأموالهم. (والقراض أن يعطي رب المال ماله للعامل ليتاجر فيه ثم يكون الربح بينهما وإذا وقعت الخسارة وقعت في المال وخسر العامل عمله)، وهذه المعاملة التي كان أهل الجاهلية يتعاملون بها جاء الإسلام وأقرها، فهي صورة من صورة الشركة في الإسلام.
ولم يتوغل النبي في التجارة، ولا كانت هماً له.
وبعد أن تزوج من خديجة رضي الله عنها، انصرف إلى العزلة والتعبد، فكان يأخذ زاده من طعام وشراب، ويخرج خارج مكة، وقد اختار جبل حراء الذي وجد كهفاً (مغارة) في أعلاه سكنها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يمكث فيها الليالي ذوات العدد حتى إذا فنى الطعام الذي معه، ونفذ الماء رجع إلى مكة مرة ثانية، ثم يكون من شأنه أن يتزود من الطعام والشراب لأيام أخرى يقضيها وحده في غار حراء.
ووجد صلى الله عليه وسلم في هذه الخلوة راحته وسعادته واطمئنان قلبه، وحببت إليه هذه الخلوة والابتعاد عن الناس، ومن كان في مثل هذه الحال فإن الدنيا لا تكون له على بال.
وكان هذا إعداداً من الله له ليحمل بعد ذلك ما لا تستطيع حمله الجبال.
وأتاه الوحي من الله، وحمله الله سبحانه وتعالى رسالته إلى العالمين، وأمره بإبلاغ دينه إلى الناس كافة في الأرض كلها.
وهذه الرسالة تبديل كامل لما عليه الأمم كلها من العقائد والنظم والتشريع والآداب والأخلاق، وفيها إكفار أهل الأرض كلهم: اليهود والنصارى والعرب المشركين والمجوس، وتسفيه لأحلامهم وحكم عليهم بالنار والعذاب والخسران هم ومن مضى من آبائهم إن ظلوا على ما هم عليه من الدين والخلق والسلوك والتشريع..
ومع ضخامة هذه المهمة وثقلها، وتكاليفها الباهظة فإن الله سبحانه وتعالى لم يضع تحت يد النبي صلى الله عليه وسلم كنزاً من المـال ينفق منه، ولا وسيلة معجزة خارقة للعادة تحمله هنا وهناك ليبلغ رسالة ربه، بل ولم يرفع عنه السعي الواجب ليكسب عيشه وعيش أولاده، وكان صلى الله عليه وسلم قـد رزق بولدين القاسم وعبدالله ماتا سريعاً، وبأربعة من البنات هن زينب،ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، عليهن السلام جميعاً ظللن في كنفه. والبنت ليست كاسبة.
وكان على النبي صلى الله عليه وسلم الذي حمل هذه الأمانة العظمى أن يسعى فيها وأن يجد ويجتهد، فانتهى بذلك عهد السكون والخلوة والسلامة من الناس والبعد عن شرورهم..
يوم الطائف!! وما لقي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم من ماله في هذا الوقت دابة يركبها، ولو حماراً يحمله إلى مكان بعيد عن مكة ليبلغ رسالة ربه، ولما أراد الذهاب إلى الطائف لم يجد إلا قدميه، وعندما رآه أهل الطائف وهم أهل الغنى والثراء، وقد أتاهم من مكة ماشياً، وليس معه أحد.. لا صديق، ولا مرافق، ولا خادم، يقوم بخدمته.. ثم يقول لهم بعد ذلك [أنا رسول رب العالمين]!!، استنكروا هذا جداً، ولم تتقبل عقولهم المريضة، ونفوسهم الخسيسة أن يكون هذا الذي أمامهم وهو على تلك الحال من الضعف والفقر هو رسـول الله حقاً وصدقاً، إذ كيف يكون رسول الله خالق الكون الذي يكلفه بالبلاغ للناس جميعاً، ولا يضع له ولو ردابة في الخدمة ليبلغ عليها رسالة ربه!!
وكان من شأنهم ما قصه النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قائلة: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: [لقيت من قومك ما لقيت!! وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذا عرضت نفسي على ابن عبدياليل بن عبدكلال، فلم يجبني إلى ما أردت -فانطلقت وأنا مهموم- على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب -وهو المسمى بقرن المنازل- فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم!! فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد، ذلك!! فما شئت؟! إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين - أي لفعلت، (والأخشبان هما جبلا مكة، أبو قبيس والذي يقابله وهو قعيقعان) - قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئاً].(متفق عليه) .
يتبع
[/align]