البشرى السابعة والعشرون بشرى الحياة الباقية فى الدنيا الفانية
وهذه البشرى الراقية بشرى الحياة الباقية فى الدنيا الفانية كيف؟ ألم يبشِّر الله تعالى أهل الإيمان وقال لهم فى محكم القرآن قوله{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}فلا حياة إلا بعد الاستجابة لرسول الله ولذا قال أحد الصالحين :
كنت ميتا أحيا مواتي بروح هي عين الحياة نور الوالي
قمت حيَّا به سميعا بصيرا في خشوع ورهبة وجلال
وهذه هى البشرى من يريد منكم الحياة؟فليستجب للرسول لكى يحييه الله أما قبل ذلك فمعيشة يستوى فيها كل خلق الله وحتى المخلوقات الدنيا بل هى معيشة أدنى ولذلك وصفها الله بالضنك فقال جل فى علاه فى كتابه{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً}فالحياة لمن استجاب لله ورسوله ولم يعرض عن ذكر الله فحياة القلب أن يضئ بنور الله وتتحرك حواسه الباطنية فتتجول فى ملكوت الله وتعود بما غاب عنه من عجائب حكمة الله وأنوار الله وغيوب عطايا مولاه التى لا تدركها الحواس الحسية لكن تناولها يكون بالحواس الباطنية التى حيت بعد الاستجابة ففُتح لها باب الإجابة ثم بدأت ترِد عليها عطايا النبى والصحابة لذا ورد أن رسول الله نادى على رجل كان يتنفل فواصل الرجل ثم جاء إلى رسول الله بعد أن انتهى فقال له{ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي؟ قال: كُنْتُ أُصَلِّي قال: أَلَمْ يَقُلْ الله تَعَالَى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}} فإذاً إجابة الرسول بنص الكتاب فرضٌ يجبّ كل الفروض فكان أصحاب الرسول بعد ذلك لو سمعوا منادى رسول الله يتركون كل ما فى أيديهم ويلبونه فإن كان أحدهم نائماً نهض قائماً فوراً وإن كان صائماً ويمد يده ليفطر يتركه ويلبى ويروى أن أحدهم كان جنبا ليلة فقام يغتسل فغسل نصف رأسه ثم سمع منادى رسول الله ينادى للجهاد فترك غسله وخرج فى الحال حتى لا يبطئ على إجابة رسول الله خرج جنباً واستشهد فقال لأصحابه كاشفاً عن سرِّ هذه المقامات العالية لقد رأيت الملائكة تغسِّله فسألوا زوجته ما أمره؟ قالت: كان جُنُباً وقبل أن يتم غسله سمع منادى الجهاد فخرج للتوِّ ولذا أتمت الملائكة غسله بنفسها وهذا حال الصالحين إذا سمع النداء ترك كل ما فى يده وأقبل على الله لأن المقام على قدر الإقبال وقربك على قدر سرعة إجابتك
البشرى الثامنة والعشرون بشرى رطَب لسانك بذكر الله
أما هذه البشرى فأنا لا أسميها بشرى ذكر الله لأن هذا موضوع معلوم ولا يحتاج مزيد أيضاح ولكن أقول بشرى أن اجعل لسانك رطباً دائما بذكر الله وهى بشرى الفتح فى طريق الله لمن أراد الفتح القريب من الله العاطى المجيب البشرى التى أعطاها النبى للرجل الذى جاء يشكو له ويقول: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فأنبئني منها بأمر أتشبَّث به فاتحفه وبشَّره بقوله الشريف{لاَ يَزالُ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ } فيعنى ببساطة وبكل سهولة ويسر إن دمت على ذكر الله ولم يجف لسانك منه فقد حزت شرائع الإسلام الكثيرة وهذه هدية ثمينة هينة ويسيرة ولكنها غالية وعظيمة ولم يعطها إلا لأهلها وهذا حال أهل الفتح مع الله لمن يريد الفتح كما قلنا روشتة بسيطة وضعها رسول الله فى أثناء النهار والليل وفى كل وقت وحال ليكن لسانك رطباً بذكر الله إلى أن يحيا القلب فإذا حيا فلا يحتاج إلى اللسان فذكر القلب أسرع وأكثر نورانية وشفافية فمعه البصيرة المضية والأنوار العلية والأحوال السنية فليس عنده وقت بكلمات لسان البريَّة ولا تسمعها الآذان الطينيَّة بل القلوب الزكيَّة فيجمعونك على أهل المعية الهنيَّة وكل هذا أتى من مداومة الذكر أفلا من متَّبع لتلك البشرى ومخلص نفسه ليصير من أهل الذكرى هل من متبع وأنا أنصح كل من يستمع فيتبع أنه لو طال عليك الأمد ولم يأتك فتح الله الصمد فاستمر ولا تقف أو تنقطع ولا تسيىء الظن بالله الأحد فإياك أن تجعل للظن السئ موضعاً فى قلبك، لأنه أكبر الحجب التى تمنع عنك عطاء ربك وإن إبليس اللعين ما حاول أن يلقى اليأس وسوء الظن فى طريقك إلا لأنه يوقن أنه يوشك أن يفتح لك فلا تلتفت واجعل ذكرك لحبِّ الله ومع الله وبالله واعلم أنه معك ما أحسنت الظن فيه أما نفسك فطبعها السوء أصلاً فلا توقفنك ولا ترجعك وثق بقول الحبيب برسالة أتى بها لنا من الله ليبشر كل مقبل عليه فلا تتلاعب به نفسه{إِنَّ اللّهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي} وللأئمة ألاف القصائد والمواجيد العلية فى ذكر الله ومعانى الذكر وأسراره العلا فننتقى نذراً من بعضها :
الجاهلون الغافلون عن الجمال شهدوا الحضيض فألبسوا ثوب النكال
والمغرمون العاشقون لذي الجلال شهدوا الجميل بلا حجاب أو عقال
ذكروا الإلـه بسرهم فتهيموا وتشوقوا حتى لـهم صح الوصال
شغلوا بذكر حبيبهم بقلوبهم فأجابهم بشرى لكم نيل الوصال
نادوه أنت مرادنا بل قصدنا وسؤلنا وحبيبنا في كل حال
ورضاك مأمول لنا فعسى به نحظى برؤيا الوجه من بعد المآل
فأجابهم حبي لكم هو سابق في محكم القران قد جاء المقال
والحب منكم فيض فضل لاحق بشرى لكم فالعشق معراج الوصال
قد أخبر القرآن بالحسنى التي سبقت لأهل القرب من أهل الكمال
البشرى التاسعة والعشرون بشرى الإتعاظ والإعتبار بالخلق
أما هذه البشرى ففيها سرٌّ عظيم من أسرار كتاب الله تعالى وسنة حبيبه وهى بشرى تفتح الباب لكل عبد أواب أو صاحب فهم فى الكتاب أو متعظ بأحوال الخلق ومافى صنعة الله من النتائج والأسباب وهنا سؤال كما تعودنا لماذا قصَّ الله علينا قصص السابقين وتناولها بأشكال عديدة وطرق مختلفة كذا حبيبه فى سنته ولماذا أمرنا بالتمعِّن فيما خلق وأبدع وصور كل هذا لأجل{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}ألم تسمعوا لقول كثير من شبابنا اليوم إذا ناقشته لماذا تفعل كذا وأنت متعلمٌ وتفهم أن هذا يضرُّك؟ يقول لك لأجربه لأتأكد من ذلك فتسأله ألا ترى من حولك وكيف أثبتت تجارب الآخرين خطر هذا الأمر فيهزَّ رأسه أو يشيح بيده كأن الأمر لا يهمه مع علمه بصحة الحجة فأين الخلل؟الخلل هو ما أتت هذه البشرى لتبينه الخلل أن أغلب الناس اليوم فقدوا حاسة أو ملكة " الإعتبار والإتعاظ" آهٍ ثم آهٍ لو استيقظت تلك الْمَلَكَة وأخذت حقها فى سلوكياتنا لوفرنا على أنفسنا الكثير والكثير من الوقت والتكاليف والضحايا والتأخير إلى أن نسلك الطريق القويم أو نتخذ القرار الحكيم مع أن العبر لا تعدُّ ولا تحصى فى السنة والكتاب وقصص الصحابة والأتباع والأحباب وفى كتاب الكون المفتوح والملىء بكل العبر والعظات ولذا قال القائل:
عِبَرٌ كلـها الحياة ولكن أَين من يفتح الكتاب ويقرا
ولذا فإن الله نصحنا ووجهنا إلى التذكر والإعتبار عند الحوادث والأخطار{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}قال سادتنا بالإتعاظ والعبرة أو بالفهم واسترجاع الذكرى فكل هذا يؤدى إلى التذكر والإعتبار وهى بشرى النجاة من الوقوع فى الخطر أو الإنجرار ببركة التذكر والإعتبار وبشرى الإستفادة من تجارب و قصص السابقين فى التاريخ والأمصار ولذلك فإن الصالحين لهم من تلك البشرى فائدة عظمى كيف؟ إن الواحد منهم لينظر إلى الخلق نظر عبرة وعظة واعتبار فإن رأى فيهم خلقاً قبيحاً معيباً يبحث فى نفسه عنه ويتهم نفسه به حتى يقتلع من نفسه جذور هذا العيب أو يتأكد أنه خلوٌ منه فيكون الناس بالنسبة له كسبورة تظهر فيها هذه العيوب فيعرفها ويحاول أن يزيلها من نفسه كما كان يفعل بسيدنا عيسى قيل له{ ياروح الله من أدبك؟ قال: ما أدبني أحد رأيت جهل الجاهل فتجنبته }{ وقِيلَ لِلأَحْنَفِ: مِمَّنْ تَعَلَّمْت الْحِلْمَ؟ قَالَ: مِنْ نَفْسِي, قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ: كُنْت إذَا كَرِهْت شَيْئًا مِنْ غَيْرِي لَمْ أَفْعَلْ بِأَحَدٍ مِثْلَهُ }وسئل حكيم{ ممن تعلّمت العقل؟ قال: ممن لا عقل له كنت أرى الجاهل يفعل الشيء فيضرّه فأتجنبه فصرت عاقلاً وحكيماً}هل رأينا جمال تلك البشرى واسمعوا واعوا لقول المتنبي الشاعر المعروف:
ولم أر في عيوب الناس شيئاً كنقص القادرين على التمام
وقال علي بن مقلة :
وإذا رأيت فتى بأعلى قمة في شامخ من عزة المترفع
قالت لي النفس الشغوف بشرفها ما كان أولاني بهذا الموضع
رأى الحسن رضى الله عنه قوماً يتزاحمون على جنارة بعض الصالحين فقال حاثاً لهممهم:
{ ما لكم تتهافتون عليه افعلوا فعلـه تكونوا مثلـه }وقال أبو العميثل :
يا من يؤمل أن تكون خصالـه كخصال أهل الفوز فأنصت واسمع
فلأنصحنك في المروءة والذي حج الحجيج إليه فاقبل أو دع
اصدق وعف وبر وانصر واحتمل واحلم وكف ودار واصبر واشجع
ومن قول أبى العيناء الرجل الحكيم:
إذا أعجبتك خِلالُ امرئ فكنهُ تكنْ مثلَ من يعجبك
وليس على المجد والْمَكْرُمَات إذا جئتها حاجبٌ يحجبك
وأختم بجميل الكلام :
مناجاة روحي في اختفاء عناصري بما لاح من غيب ومن معقول
تسليت لكن عن وجود تقيدي فررت إلى اللـه بحال ذليل
رأيت مقامي بي هو السفل زلة ومنه اتصال فيه ثم مقيلي
تناجيه روحي وهي في مقعد الصفا تحيط بها الأنوار حال حصولي
وبالعالم الأعلى اقتدائي تنقلي وبالواحد الأعلى بيان دليلي
سل اللـه يعطيك المثول وسلـه هو وخل محيط الكون في تشكيل
[1] عن أبي سَعِيدِ بنِ المُعَلَّى، سنن أبي داوود وغيرها..
[2] رويناها أعلاه بمعناها وردت عن هشام بن عُروة عن أبيه، الوافي بالوفيات ومصادر أخرى كثيرة.
[3] مصنف ابن أبي شيبة عن عبد الله بن بسر
[4] صحيح مسلم عن أبى هريرة
[5] فيض القدير.