اختلف الناس هل النفسواحدة أم للعبد ثلاث أنفس : نفس مطمئنة ونفس لوامة ونفسأمارة؟
فالأول : قول الفقهاء والمتكلمين وجمهور المفسرين وقولمحققي الصوفية، قالوا: النفس واحدة، ولها ثلاثة أوصاف، أو أحوال؛ فهي تارة تكونآمنة مطمئنة، وتارة تكون لوامة، وتارة تكون أمّارةبالسوء.
والثاني : قول كثير من أهلالتصوف.
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله (إغاثة اللهفان 1/76): "والتحقيق أنهلا نزاع بين الفريقين، فإنها واحدة باعتبار ذاتها، وثلاث باعتبار صفاتها، فإذااعتبرت بنفسها فهي واحدة، وإن اعتبرت مع كل صفة دون الأخرى فهيمتعددة.
وما أظنهم يقولون إن لكل أحد ثلاث أنفس، كل نفس قائمة بذاتها مساويةللأخرى في الحد والحقيقة، وأنه إذا قبض العبد قبضت له ثلاث أنفس كل واحدة مستقلةبنفسها.
وحيث ذكر سبحانه النفس وأضافها إلى صاحبها فإنما ذكرها بلفظ الإفراد،وهكذا في سائر الأحاديث ولم يأت في موضع واحد: نفوسك، و نفوسه، ولا أنفسك، و أنفسه،وإنما جاءت مجموعه عند إرادة العموم كقوله: ﴿ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴾ (التكوير:7)، أو عند إضافتها إلى الجمع كقوله: "إنما أنفسنا بيد الله"، ولو كانت فيالإنسان ثلاث أنفس لجاءت مجموعة إذا أضيفت إليه، ولو في موضعواحد.
فالنفس إذا سكنت إلى الله واطمأنت بذكره وأنابت إليه واشتاقت إلىلقائه، وأنست بقربه فهي مطمئنة وهي التي يقال لها عند الوفاة: ﴿ يَا أَيَّتُهَاالنَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ﴾ (الفجر:27-28).
قال ابن عباس : ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴾ يقول: المصدقة
وقال قتادة : هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعدالله.
وقال الحسن : المطمئنة بما قال الله والمصدقة بماقال.
وقال مجاهد : هي المنيبة المخبتة التي أيقنت أن الله ربها وضربت جأشالأمره وطاعته وأيقنت بلقائه.
وحقيقة الطمأنينة : السكون والاستقرار، فهي التي قد سكنت إلى ربهاوطاعته وأمره وذكره، ولم تسكن إلى سواه فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره،واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره واطمأنت إلى لقائه ووعده، واطمأنت إلى التصديق بحقائقأسمائه وصفاته واطمأنت إلى الرضى به ربا و بالإسلام دينا وبمحمد رسولا واطمأنت إلىقضائه وقدره، واطمأنت إلى كفايته وحسبه وضمانه فاطمأنت بأنه وحده ربها وإلههاومعبودها، ومليكها ومالك أمرها كله وأن مرجعها إليه وأنها لا غنى لها عنه طرفةعين.
وإذا كانت بضد ذلك فهي أمارة بالسوء تأمر صاحبها بما تهواه من شهواتالغي واتباع الباطل فهي مأوى كل سوء وإن أطاعها قادته إلى كل قبيح وكل مكروه، وقدأخبر سبحانه أنها أمارة بالسوء ولم يقل آمرة لكثرة ذلك منها، وأنه عادتها ودأبهاإلا إذا رحمها الله وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير فذلك من رحمة الله لا منهافإنها بذاتها أمارة بالسوء؛ لأنها خلقت في الأصل جاهلة ظالمة إلا من رحمة اللهوالعدل والعلم طارىء عليها بإلهام ربها وفاطرها لها ذلك، فإذا لم يلهمها رشدها بقيتعلى ظلمها وجهلها فلم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم فلولا فضل الله ورحمته علىالمؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة.
وأما اللوامة؛ فاختلف في اشتقاق هذه اللفظة هل هي من التلوم؟ وهوالتلون والتردد، أو هي مناللوم.
وعبارات السلف تدور على هذينالمعنيين:
قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس: ما اللوامة؟ قال: هي النفساللؤوم.
وقال مجاهد : هي التي تندم على ما فات وتلومعليه.
وقال قتادة : هيالفاجرة.
وقال عكرمة : تلوم على الخيروالشر.
وقال عطاء عن ابن عباس : كل نفس تلوم نفسها يوم القيامة تلوم المحسننفسه أن لا يكون ازداد إحسانا وتلوم المسيء نفسه أن لا يكون رجع عنإساءته.
وقال الحسن : إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاتهيستقصرها في كل ما يفعل فيندم ويلوم نفسه وإن الفاجر ليمضي قدما لا يعاتبنفسه
فهذه عبارات من ذهب إلى أنها مناللوم.
وأما من جعلها من التلوم فلكثرة ترددها وتلومها وأنها لا تستقر علىحال واحدة.
والأول أظهر ؛ فإن هذا المعنى لو أريد لقيل المتلومة كما يقالالمتلونة والمترددة ولكن هو من لوازم القول الأول، فإنها لتلومها وعدم ثباتها تفعلالشيء ثم تلوم عليه، فالتلوم من لوازماللوم.
والنفس قد تكون تارةأمارة.
وتارة لوامة
وتارة مطمئنة.
بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا والحكمللغالب عليها من أحوالها؛
فكونها مطمئنة وصف مدح لها .
كونها أمارة بالسوء وصف ذملها.
وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلومعليه
وعلاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه ولهعلاجان:
محاسبتها.
ومخالفتها.
وهلاك القلب من إهمال محاسبتها ومن موافقتها واتباع هواها. وفيالحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس قال: قال رسول الله: "الكيس مندان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" دان نفسه أي حاسبها.
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: حاسبواأنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غداأن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكمخافية.
وذكر أيضا عن الحسن قال: لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه، وماذا أردتتعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟، والفاجر يمضي قدما قدما لا يحاسبنفسه.
وقال الحسن : إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانتالمحاسبة من همته.
وقال ميمون بن مهران : لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبةمن الشريك لشريكه.
ولهذا قيل : النفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهببمالك.
وقال ميمون بن مهران أيضا : إن التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان عاص،ومن شريكشحيح"اهـ