ابن غديّان.. أيُّ قرح ٍ عظيم ٍ مسّنا!
أما إنَّ المصائب والرزايا لا يأتين فرادى، فإذا نزلنَ بساحاتنا وحللنَ ديارنا انتشرن فيها انتشار النار في الهشيم، فما تتركُ منّا عزيمةً، ولا تُبقِ لنا صبراً، ولا تقطعُ عنّا دمعاً.
فمن أي سهام البلاء المنصبِّ نتّقي! ومن أي قطره المنهمر نفرُّ!
فبالأمس نبكي غزّة الجهادِ والرّباطِ الأسيرة المحاصرة، ونندبُ ضمير العالم الجريح باغتيال العدل والشرف على إثر الجريمة التي جرت على سفينة الحريّة، فما جفّت الدموع – والله – بعدُ، ولا ذهبت غصّة الوجعِ، واليوم يطوينا خبر عظيم يزلزلُ الجوانحَ ويهدُّ القوى ويدوّي في الخافقين يعلن وفاة عالم من علماء الأمة العِظام وبقيّة من بقايا جيل الراسخين في المعرفةِ ألا وهو الشيخ عبدالله بن غديان رحمه الله.
وكأنَّ حالنا مع المصيبات أن يرقّق بعضُهنَّ بعضاً، فنبكي على مصيبةٍ خلفَ أخرى، ولا تجفُّ المآقي إلا وتهطلُ أختها على إثرها بدمع غزير وحزن أليم.
رحم الله الشيخ ابن غديان، ورضي الله عن نفسهِ المطمئنّة بالقناعة، والمليئة بالعفاف، فما رآه طلابهُ قاصداً لكبير أو صغير، ولا مُنيخاً ركابه بقصرٍ منيف أو بناء مشيد، إنّما وعى العلم وأتقنهُ فأدّاه، ونشره في الآفاق محتسباً أجرهُ عند من بيده خزائنُ السموات والأرض، فكان آية في العلم وسيلان المعرفة وذكاء الطبع، وبقي حِكرَ مكتبهِ وحِلسَ بيته نافراً عن أرباب المناصب مجافياً لأهل الدّنيا، لا يعرف التزلّفَ إلى أحد أو التجمّل بين يديه.
إنَّ هذا العالم الجهبذ درسٌ عمليٌّ للزاهدِ المتعفّفِّ المنقطع في زمنٍ غلبَ فيه الجشع وتكالب الناسِ على الحياةِ وجمعِ الأرصدة والكدح للدنيا، فهو آيةٌ في ميدانِ سموِّ الرّوحِ وارتفاعِها عن المطامع والملذّاتِ العاجلةِ، فقد أتته المناصب منقادة إليه تجرّر أذيالها، فتقلّدها ظاهراً وانقلب عليها باطناً، فهو وزيرٌ في المنصبِ والجاهِ لكنّه من عامّة الخلقِ في الروحِ والداخلة.
وموت هؤلاء العلماء لاسيّما السابقين الأولين ممن أسّس لبنيان الصحوة الإسلاميّة وأرسى دعاماتِها لهو نذير شر ورسول بلاء، فبموتهم تنقصُ الأرضُ من أطرافها، وبفنائهم يتضاءل رواق العلم ويقلص فيء المعرفة وينقبضُ بساط الهُدى، وبرحيلِهم تعلو الأسافل وينشط الساقطون وتنتشر الجهالة.
لقد كان الشيخ – نوّر الله قبرهُ - قطعةً مؤتلفةً نديّةً من النبوغ النادر، والذكاءِ المتدفّقِ، والقريحة الوقّادةِ، على حدّة فيه أدّاهُ إليها غلبة الطبعِ، أخذ العلمَ عن طائفةٍ من نوابغ الأئمة المعاصرين، وثنى ركبته بمجالسهم العامرة بالهُدى والعلم، ويكفيه فخراً وشرفاً أنّه خرّيج مدرسةِ شيخ الإسلام عبدالعزيز بن باز – سقى اللهُ قبرهُ مزون الرحمةِ -، ووارث علم إمام التفسير العلامة الأمين الشنقيطي – رحمه الله رحمة واسعةً – وخازن معرفةِ العلامة عبدالرزّاق عفيفي – نوّر الله قبرهُ -، ألا ما أعظمه من مجدٍ وأرقاهُ من سؤددٍ! حتّى إذا فتح الله عليه في العلم أدّى حقَّ ذلك بالتدريس والتعليم في الجامعات وحلق العلم وأركان الجوامع وعبر مدارج الأثير.
لقد بقي يرنُّ في الآذان صوتهُ الحادُّ الذي ينسكبُ في المسامع مشيَ السحابة لا ريثٌ ولا عجلٌ، وبقيتْ صورتهُ النقيّةُ - نقاء روحه وسريرتهِ - ببياض بشرتهِ الشديدِ وهو على كرسيّه يهتزُّ ملتذاً بتدريس الفنون وجرد المطوّلاتِ، فكان يقصد المدائن بالتعليم والتدريس، ويتصدّى للإفتاء، ويجلسُ لأسئلة النّاس، هذا دأبه الدهرَ ما تغيّرت له عادة ولا انقطعت عنه سيرة.
فعلى أي مآثرك العِظام يا زكيَّ الرّوح نبكي! وإلى أي مفاخرك الكرام يا عليَّ القدرِ نحِنُّ!
ومالنا ألا نبكيك ونحن نرى ساداتِ أهل العلم ينخرمون واحداً تلو الآخر ويتخطّفهم الموتُ ويُجلبُ عليهم برجلهِ، ولم يبق إلا الحطمة من الناس في ثلّة قليلةٍ من أهل العلم ترنو إليهم عين المنيّة كأنَّ أجلهم الليلة أو غد.
ولمَ لا نرثيك ونحن نشدو في الآفاق نلتمسُ العلماء الربّانيين فلا نكاد نقف على أحدٍ منهم إلا قليلاً قد جاءهم النّذيرُ فذوت أعوادهم، وأدبرت أيامهم، وانحنت ظهورهم، فهم في الأثر، ونحن على الأمل!
ومالها ألا تندبك من الشوق - أيها العالم النبيل - جوانبُ اللجنة الدائمة للإفتاء، وأنت توقّع فيها عن ربِّ العالمين من عقودٍ مضتْ حتّى عرفك النّاس ثالث ثلاثةٍ فيها مع شيخيك ابن باز وابن عفيفي، ولم لا تبكيك من الحسرة مدارج الأثير وقد نشرتْ في الآفاق للمسامع فتاويك المحرّرة في "نور على الدرب"!
فأي نبع جفَّ؟
وأي خيرٍ غيضَ؟
وأي قطر وقف!
إلا ما أقرب الموت من الحياة، وما أدنى البلاء من العافية، وما ألحق الآخرة بالأولى!
لقد رحل إلى منقلبهِ وما سمع النّاسُ أنّه غيّر أو بدّل أو نكص! بل بقيَ يفتي بالحقِّ ويقضي بالدليل، فما انتحل من شواذ الأقوال، ولا تقلّد من آفات الآراء، ولا جرّأ فاجراً على دين الله، أو أباح حماهُ لكل مستبدٍّ غشومٍ، أو فتحاً أبواباً للشبهاتِ والشهواتِ.
اللهم فاغفر لعبدك عبدالله بن غديان، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، وأكرم نزله وأحسن مدخله، واجعل قبره روضة من رياض الجنّة.
بقلم/ ماجد بن عبدالرحمن البلوشي
منقول من موقع نور الإسلام