فـو الله مـا كَـذَبْـتُ ولا كُـذِبْـتُ
قوة اليقين ، وصدق التصديق بموعود الله ورسوله ، كان ذلك يجعل سلف هذه الأمة يحلفون بالله على صدق موعود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وتصديقاً بموعود الله ورسوله .
لما خرجت الحرورية ( الخوارج ) على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قالوا : لا حكم إلا لله ! قال عليّ : كلمة حق أريد بها باطل ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء ، يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهم - وأشار إلى حلقه - مِنْ أبغض خلق الله إليه ، منهم أسود إحدى يديه طُـبْـيُ شاة أو حلمة ثدي ، فلما قتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : انظروا ، فنظروا فلم يجدوا شيئا ، فقال : ارجعوا فو الله ما كذبت ولا كذبت - مرتين أو ثلاثا - ثم وجدوه في خربة ، فأتوا به حتى وضعوه بين يديه . رواه مسلم .
(طُـبْـيُ شاة ) ضرع شاة .
هذا يمين أبي الحسن رضي الله عنه وأرضاه يحلف بالله أنه ما كَذَب ولا كُذِب .
وروى البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام ، وكلنا فارس . قال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امـرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين ، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : الكتاب . فقالت : كتاب ، فأنخناها فالتمسنا فلم نرَ كتابا فقلنا : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنَّكِ ، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته .
ولما كان يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، فقام عمرو بن الجموح وهو أعرج ، فقال : والله لأقحزن عليها في الجنة ، فقاتل حتى قُتل .
وفي رواية : أرأيت إن قتلت اليوم أطأ بعرجتي هذه الجنة ؟ قال : نعم . قال : فو الذي بعثك بالحق لأطأن بها الجنة اليوم - إن شاء الله - فقال لغلام له كان معه يُقال له سليم : ارجع إلى أهلك . قال : وما عليك أن أصيب اليوم خيراً معك ؟ قال : فتقدم إذاً . قال : فتقدم العبد ، فقاتل حتى قُتل ، ثم تقدم وقاتل هو حتى قُتل .
هل عندنا مثل هذا اليقين والتصديق بخبر الله ورسوله ؟ تأمل حال هذا الأعرابي الذي سمع آيات بيّنات فتأثر بها ... فماذا صنع ؟
قال الأصمعي : أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلداً سيفه ، وبيده قوسه ، فَدَنـا وسلّم ،
وقال : ممن الرجل ؟
قلت : من بني أصمع .
قال : أنت الأصمعي ؟
قلت : نعم .
قال : ومن أين أقبلت ؟
قلت : من موضع يُتلى فيه كلام الرحمن .
قال : والرحمن كلام يتلوه الآدميون ؟!
قلت : نعم .
قال : فَاتـْـلُ عليّ منه شيئا ، فقرأت ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) إلى قوله (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) .
فقال الأعرابي : يا أصمعي هذا كلام الرحمن ؟
قلت : إي والذي بعث محمداً بالحق إنه لكلامه ، أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
فقال لي : يا أصمعي حسبك .
ثم قام إلى ناقته فنحرها ، وقطعها بجلدها ، وقال : أعنِّي على توزيعها ، ففرقناها على من أقبل وأدبر ، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ، ووضعهما تحت الرحل ، وولّى نحو البادية ، وهو يقول : ( وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) .
قال الأصمعيّ : فَمَقـَـتُّ نفسي ولمتها ، ثم حججت مع الرشيد ، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق ، فالتفتُّ ، فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل ، فسلّم عليّ ، وأخذ بيدي ، وقال : اتلُ عليّ كلام الرحمن ، وأجلسني من وراء المقام ، فقرأت ( وَالذَّارِيَاتِ ) حتى وصلت إلى قوله تعالى : ( وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) فقال الأعرابي : لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا . وقال غير هذا ؟ قلت : نعم ؛ يقول الله تبارك وتعالى : (َوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) فصاح الأعرابي ، وقال : يا سبحان الله ! من الذي أغضب الجليل حتى حلف ؟ ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين ؟؟ فقالها ثلاثا ، وخرجت بها نفسه . رواه البيهقي في شعب الإيمان .
إننا أحوج ما نكون إلى هذا التصديق
وأحوج ما نكون إلى هذا اليقين
وأحوج ما نكون إلى هذا التأثّـر بعد التدبّـر