اخر المواضيع

اضف اهداء

 

العودة   منتديات الرائدية > المنتديات العامة > منتدى الثقافة العامة
 

إضافة رد
مشاهدة الموضوع
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-08-2014, 01:14 PM   رقم المشاركة : 31
ابو جواد
رائدي فـعـّـال
الملف الشخصي






 
الحالة
ابو جواد غير متواجد حالياً

 


 

العدل أساس الملك:
وإلى جانب هذه النهضة العمرانية راح المنصور يسهر على تنفيذ طائفة من الإصلاحات الداخلية على مستوى الدولة العباسية كلها.
وإذا كان العدل أساس الملك، فإن الذين يقومون على العدل ينبغى أن يتم اختيارهم بعيدًا عن الهوى والمصالح. روى أن "الربيع ابن يونس" وزير "أبى جعفر" قال له ذات يوم: إن لفلان حقّا علينا؛ فإن رأيت أن تقضى حقه وتوليه ناحية. فقال المنصور:
يا ربيع، إن لاتصاله بنا حقّا فى أموالنا لا فى أعراض الناس وأموالهم. ثم بين للربيع أن لا يولى إلا الأكفاء، ولا يؤثر عليهم أصحاب النسب والقرابة. وكان يقول: ما أحوجنى أن يكون على بابى أربعة نفر، لا يكون على بابى أعف منهم، هم أركان الدولة، ولا يصلح الملك إلا بهم:
أما أحدهم: فقاض لا تأخذه فى الله لومة لائم.
والآخر: صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوى.
والثالث: صاحب خراج، يستقضى ولا يظلم الرعية، فإنى عن ظلمها غنى.
ثم عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات، يقول فى كل مرة: آه. آه. قيل: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصّحَّة (رجل يخبرنى بما يفعل هؤلاء لا يزيد ولا ينقص).
هكذا كان المنصور حريصًا على إقامة العدل، ووضع الرجل المناسب فى المكان المناسب، وإلى جانب هذا، فقد كان يراقب عماله وولاته على الأقاليم، ويتتبع أخبارهم أولا بأول، ويتلقَّى يوميّا الكتب التى تتضمن الأحداث والوقائع والأسعار ويبدى رأيه فيها، ويبعث فى استقدام من ظُلم ويعمل على إنصافه متأسيًا فى ذلك بما كان يفعل الخليفة الثانى عمر بن الخطاب -رضى الله عنه-!
العناية بالمساجد:
وأعطى المنصور كل العناية للمساجد، خاصة المسجد الحرام، فعمل على توسعته سنة 140هـ، وسار إلى بيت المقدس بعد أن أثر فيه ذلك الزلزال الذى حدث بالشام، فأمر بإعادة بنائه مرة أخرى، وبنى المنصور مسجدًا بمنى وجعله واسعًا، يسع الذين يقفون فى منى من حجاج بيت الله، وشهدت مدن الدولة الكبرى نهضة إنشائية وعمرانية، روعى فيها بناء العديد من المساجد فى البصرة والكوفة وبغداد وبلاد الشام وغيرها من أقاليم الدولة.
العناية بالاقتصاد:
يذكر التاريخ للمنصور- إلى جانب هذه النهضة الإصلاحية العمرانية- اهتمامه بالزراعة والصناعة وتشجيعه أصحاب المهن والصناعات، وتأمينه خطوط التجارة والملاحة فى الخليج العربى حتى الصين من خطر القراصنة الهنود الذين كانوا يقطعون طرق التجارة، ويقتلون التجار، ويستولون على الأموال، وراح قُواده يؤدبون هؤلاء اللصوص. وكثيرًا ما يعود قواد البحر بالغنائم والأسرى حتى انقطعت القرصنة بعد سنة 153هـ/ 770م، ولقد تم فى عهده إعادة فتح "طبرستان" سنة 141هـ/ 759م، فيما وراء النهر.
العناية بالحدود:
أعطى المنصور اهتمامًا بالغًا بجهة الشمال؛ فراح يأمر بإقامة التحصينات والرباطات على حدود بلاد الروم الأعداء التقليديين للدولة الإسلامية.
وكانت الغزوات المتتابعة سببًا فى أن ملك الروم راح يطلب الصلح، ويقدم الجزية صاغرًا سنة 155هـ. ولا ننسى للمنصور حملته التأديبية على قبرص لقيام أهلها بمساعدة الروم، ونقضهم العهد الذى أخذوه على أنفسهم يوم أن فتح المسلمون قبرص.
هذا هو "المنصور"، وهذه هى إصلاحاته فى الداخل والخارج رحمه الله رحمة واسعة، لقد كان يعرف لنفسه حقها، وللناس حقهم، ولربه حقه.
وصية المنصور:
لقد ذهب ليحج سنة 158هـ/ 775م، فمرض فى الطريق، وكان ابنه محمد "المهدى" قد خرج ليشيعه فى حجه، فأوصاه بإعطاء الجند والناس حقهم وأرزاقهم ومرتباتهم، وأن يحسن إلى الناس، ويحفظ الثغور، ويسدد دينًا كان عليه مقداره ثلاثمائة ألف درهم، كما أوصاه برعاية إخوته الصغار، وقبل أن يدخل مكة لقى ربه ليقول له: إننى تركت خزانة بيت مال المسلمين عامرة، فيها ما يكفى عطاء الجند ونفقات الناس لمدة عشر سنوات.
رحمه الله، كان يلبس الخشن، ويرقع القميص ورعًا وزهدًا وتقوى، ولم يُرَ فى بيته أبدًا لهو ولعب أو ما يشبه اللهو واللعب، ويذهب المنصور إلى رحمة الله.
وتعالوا بنا نقرأ وصية أبى جعفر المنصور لولده وولى عهده المهدى، قال المنصور لولده المهدى:
"ولدت فى ذى الحجة، ووليت فى ذى الحجة، وقد هجس فى نفسى أنى أموت فى ذى الحجة من هذه السنة، وإنما حدانى على الحج ذلك، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدى، يجعل لك فى كربك وحزنك فرجًا ومخرجًا، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب.
يا بنى: احفظ محمدًا ( فى أمته، يحفظك الله، ويحفظ عليك أمورك، وإياك والدم الحرام، فإنه حوبٌ (إثم) عند الله عظيم، وعار فى الدنيا لازم مقيم، والزم الحدود، فإن فيها خلاصك فى الآجل، وصلاحك فى العاجل، ولا تعتد فيها فتبور، فإن الله تعالى لو علم شيئًا أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمرٍ به فى كتابه.
واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه، أنه أمر فى كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى فى الأرض فسادًا، مع ما ادّخر له عنده من العذاب العظيم، فقال: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [المائدة: 33].
فالسلطان يا بنى حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودينه القيم، فاحفظه وحصنه، وذُبَّ عنه، وأوقع بالملحدين فيه، وأقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب، ولا تجاوز ما أمر الله به فى محكم القرآن، واحكم بالعدل ولا تشطط؛ فإن ذلك أقطع للشغب، وأحسم للعدو، وأنجع فى الدواء، وعفّ عن الفىء، فليس بك إليه حاجة مع ما خلفه الله لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة، وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية، واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمّن السبل، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، وادفع المطاردة عنهم، وأعد الأموال واخزنها، وإياك والتبذير، فإن النوائب غير مأمونة، وهى من شيم الزمان، وأعد الكراع والرجال والجند ما استطعت، وإياك وتأخير عمل اليوم إلى الغد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع، جد فى إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولا فأولا، واجتهد وشمر فيها، وأعد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل، وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر ولا تكسل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسئ الظن بعمالك وكتَّابك، وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من تثبت على بابك، وسهِّل إذنك للناس، وانظر فى أمر النزاع إليك، ووكل بهم عينًا غير نائمة، ونفسًا غير لاهية، ولا تنم، وإياك، فإن أباك لم ينم منذ ولى الخلافة، ولا دخل عينه النوم إلا وقلبه مستيقظ.
يا بنى: لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح الرعية إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، هذه وصيتى إليك، والله خليفتى عليك".







رد مع اقتباس
قديم 01-08-2014, 01:14 PM   رقم المشاركة : 32
ابو جواد
رائدي فـعـّـال
الملف الشخصي






 
الحالة
ابو جواد غير متواجد حالياً

 


 

خلافة المهدى
( 158- 169هـ/ 775- 786م)
ويأتى محمد المهدى بعد أبيه بعد أن بايعه الناس بالخلافة، لقد كان المهدى وليّا للعهد فى خلافة والده المنصور، وكثيرًا ما كان يتلقى توجيهاته ونصائحه وإرشاداته، وما زالت كلمات أبيه ترن فى أذنه:
"إن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه. يابنى، استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتأليف، والنصر بالتواضع والرحمة للناس، ولا تنس نصيبك من الدنيا، ونصيبك من رحمة الله".
استكمال الإصلاحات:
وسار المهدى على نهج أبيه المنصور فى القيام بالإصلاحات الداخلية، وتأمين الحدود، وعمارة المساجد، وعلى رأسها المسجد الحرام.
ولم يفته أن يأمر بحفر نهر بالبصرة يحيى به الأرض الموات، ويسهم فى توفير القوت، ولقد أحسن إلى العلويين وإلى غيرهم ممن لهم أهداف سياسية، فأطلق سراح من كان منهم فى السجون سنة 159هـ/ 776م، وكان لهذا أثره فى الاستقرار والهدوء فلم يخرج عليه أحد من العلويين!
ولقد أتيح له أن يقضى على ثلاث ثورات، قام بها أفراد انضم إليهم كثير من الخوارج، اثنتين فى خراسان والثالثة "بقنسرين" من أرض الشام.
وراح يواصل تأمين طرق التجارة إلى الهند، وانطلقت فى خلافته الجيوش الإسلامية الفاتحة فى اتجاه الروم؛ ففى سنة 165هـ/ 782م بلغت جيوشه بقيادة ابنه "هارون الرشيد" خليج "القسطنطينية"، وجرت الرسل والسفراء بينه وبين الإمبراطورة الرومانية "إيرين" فى طلب الصلح فى مقابل فدية تقدم للدولة الإسلامية سنويّا مقدارها سبعون ألف دينار، واشترط الرشيد على ملكة الروم تعيين أدلاء له، وإقامة الأسواق فى طريق عودته، وكانت مدة الهدنة ثلاث سنين.
تأمين الحدود:
كما أرسل عام 167هـ ولى عهده الهادى إلى "جرجان" فى جيش كثيف لم يُرَ مثله. إن الجيش الإسلامى فى عهد المهدى كان له وجوده على حدود الروم، حتى لقد قام أمير البر الشامى بغزوتين بحريتين فى اتجاه الروم سنة 160هـ/ 777م، و161هـ/ 778م، ولقد قضى على الإلحاد والزندقة فى عهده..، لم تأخذه فى ذلك لومة لائم، ومن شابه أباه فما ظلم.
ورع المهدى:
وحدث فى خلافته أن أصاب الناس ريح شديدة ظنوا معها قيام الساعة، وأخذ القواد فى البحث عن المهدى فوجدوه واضعًا خده على الأرض وهو يقول: "اللهم احفظ محمدًا فى أمته !اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم ! اللهم إن كنتَ أخذتَ هذا العالم بذنبى فهذه ناصيتى بين يديك! ".
واستمر المهدى فى دعائه وتضرعه حتى انكشفت الريح، وعاد الأمر إلى وضعه الصحيح.
وتتبع المهدى الزنادقة والملحدين أعداء الدين، وأمر بتصنيف كتب الجدل للرد عليهم.
أمن وعطاء:
وأشاع عهدًا من السلام بينه وبين العلويين، ولقد سار بالخلافة على الخطة التى وضعها له أبوه، ينظر فى الدقائق من الأمور، ويُظْهِر أبَّهة الوزراء. وكان المهدى أول من جلس للمظالم من بنى العباس، يقيم العدل بين المتظالمين، ومشى على أثره من بعده الهادى والرشيد والمأمون، وكان "المهتدى" آخر من جلس للنظر فيها، وبسط "المهدى" يده فى العطاء، فأذهب جميع ما خلفه المنصور، وأجرى المهدى الأرزاق على المجذومين وأهل السجون فى جميع الآفاق، وأمر بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن وبغداد ببغال وإبل، وقد وجد البريد من عهد عمر بن الخطاب، والذى فعله المهدى مزيد من التنظيم له، قال رجل للمهدى: عندى لك نصيحة يا أمير المؤمنين. فقال: لمن نصيحتك هذه ؟ لنا أم لعامة المسلمين أم لنفسك؟
قال: لك يا أمير المؤمنين. قال: ليس الساعى بأعظم عورة، ولا أقبح حالا ممن قَبِل سعايته، ولا تخلو من أن تكون حاسد نعمة، فلا نشفى غيظك، أو عدوّا فلا نعاقب لك عدوك. ثم أقبل على الناس فقال: لا ينصح لنا ناصح إلا بما فيه رضا لله، وللمسلمين صلاح. وما تكاد سنة 169هـ/ 786م تقبل حتى توفى المهدى -رحمه الله -رحمة واسعة. وتولى الخلافة من بعده الخليفة موسى الهادى.







رد مع اقتباس
قديم 01-08-2014, 01:15 PM   رقم المشاركة : 33
ابو جواد
رائدي فـعـّـال
الملف الشخصي






 
الحالة
ابو جواد غير متواجد حالياً

 


 

خلافة موسى الهادى
( 169 - 170هـ / 786 - 787م)
أوصى المهدى ابنه موسى الهادى قبل أن يموت بقتل الزنادقة، وكان الهادى قوى البأس شهمًا خبيرًا بالملك كريمًا. فجدَّ فى أمرهم، وقتل منهم الكثير.
على أن الأمور بينه وبين العلويين لم تكن على ما يرام كما كانت فى عهد أبيه، فقد عادت إلى التوتر بعد فترة السلام التى امتدت طوال فترة خلافة المهدي.
ويرجع السبب فى ذلك إلى عامل المهدى على المدينة، فقد ظلم بعض آل على -رضى الله عنه- مما جعل الحسين بن على بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب يثور ويجتمع حوله كثيرون ويقصدون دار الإمارة، ويخرجون من فى السجون، ثم يخرج الحسين إلى مكة فيرسل له الهادى: "محمد بن سليمان" وتتلاقى جموعهم فى موقعة حاسمة قتل فيها "الحسين" وحمل رأسه إلى موسى الهادى.
ونجا من موقعة "الفخ" اثنان من العلويين، أحدهما: يحيى بن عبد الله بن الحسن، أما الثانى فهو أخوه إدريس بن عبد الله.
وقد ثار الأول فى عهد الرشيد فقتل أما الثانى وهو إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن فقد تمكن من إثارة أهل المغرب الأقصى ( المملكة المغربية حاليّا ) على العباسيين، حيث أسس هناك دولة الأدارسة.
وعلى الرغم من أن خلافة موسى الهادى كانت قصيرة فإن الفتوحات الإسلامية لم تتوقف مسيرتها؛ فقد غزا "معيوف بن يحيى" الروم ردّا على قيام الروم بغزو حِمْص "الحَدَث"، ولقد دخل معيوف بلاد الروم، وأصاب سبايا وأسارى وغنائم.
ولقى الهادى ربه سنة سبعين ومائة هجرية، وكان رحمه الله موصوفًا بالفصاحة، محبّا للأدب ذا هيبة ووقار، قيل عن الليلة التى مات فيها: هى ليلة مات فيها خليفة وجلس فيها خليفة، وولد خليفة. فالخليفة الذى مات فيها هو الهادى، والذى جلس فيها على سريره هو الرشيد، والذى ولد فيها هو المأمون.







رد مع اقتباس
قديم 01-08-2014, 01:16 PM   رقم المشاركة : 34
ابو جواد
رائدي فـعـّـال
الملف الشخصي






 
الحالة
ابو جواد غير متواجد حالياً

 


 

خلافة هارون الرشيد
(170 - 193هـ/ 788 - 810م)
لقد سار الرشيد في إدارته على نهج قويم، وأعاد إلى الخلافة مجدها الذى كان لها على عهد جده المنصور، وما كان مسرفًا ولا بخيلا، وسمى الناس أيامه "أيام العروس" لنضارتها وكثرة خيرها وخصبها، وكانت دولته من أحسن الدول وأكثرها وقارًا ورونقًا وأوسعها مملكة، واتسعت الدولة الإسلامية فى عهد الرشيد، وجاءه الخير من كل مكان، وعين الرشيد يحيى بن خالد البرمكى، وجعله كبير وزرائه، وقال له: قد قلدتك أمر الدولة، وأخرجته من عنقى إليك، فاحكم فى ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت، وأمض الأمور على ما ترى. وسلَّم إليه خاتم الخلافة.
إدارة حكيمة:
أما الولايات فقد فوضها إلى أمراء جعل لهم الولاية على جميع أهلها، ينظرون فى تدبير الجيوش والأحكام، يعينون القضاة والحكام، ويجْبُون الخراج، ويقبضون الصدقات، ويقلدون العمال فيها، ويحمون الدين، ويقيمون حدوده، ويؤمُّون الناس فى صلاة الجمعة، الصلوات الأخرى أو يستخلفون عليها، فإذا كانت أقاليمهم ثغرًا متاخمًا للعدو تولوا جهاده.
وما قسمت أعمال الدولة منذ انتقالها إلى بنى العباس تقسيمها فى زمن الرشيد، ولذلك كان للخليفة وقت ليحج، ووقت ليغزو، ووقت ليصطاف فى الرقة، ويترك قصر الخلد فى بغداد.
لقد كان الرشيد على أشد ما يكون من الانتباه لكل ما صغر وكبر من شئون الملك، ومن أشد الملوك بحثًا عن أسرار رعيته، وأكثرهم بها عناية، وأحزمهم فيها أمرًا؛ لذلك فما اشتعلت فتنة فى أرجاء دولته إلا أطفأها.
وألغى الرشيد العُشْر الذى كان يؤخذ من الفلاحين والمزارعين بعد النصف، وكان رحمه الله يسدُّ كل خللٍ فى مملكته، ويهتمُّ كل الاهتمام بما يخفف عن الفلاحين.
وقد ولّى الرشيد رجلا بعض أعمال الخراج، فدخل عليه يودعه، وعنده يحيى بن خالد البرمكى، وابنه جعفر، فقال الرشيد ليحيى وجعفر: أوصياه. فقال له يحيى: وفِّر وعَمِّر. وقال له جعفر: أنصف وانتصف. فقال له الرشيد: اعدل وأَحْسِن.
وكتب الرشيد إلى أحد عماله: أجْرِ أمورك على ما يكسب الدعاء لنا لا علينا، واعلم أنها مدة تنتهي، وأيام تنقضى، فإما ذكر جميل، وإما خزى طويل. ومما يعد جديدًا فى تعظيم الحكم أن قاضى الرشيد "أبا يوسف" صاحب أبى حنيفة وتلميذه كان أول من دُعى فى الإسلام قاضى القضاة (وزير العدل الآن )، وكان الرشيد لا يبخل بالمال فى سبيل الدولة، وقد خلف من المال -على كثرة بذله- مالم يخلف أحد مثله منذ كانت الخلافة.
قال ابن الأثير: كان الرشيد يطلب العمل بآثار المنصور إلا فى بذل المال، فإنه لم يُر خليفة قبله كان أعطى منه للمال، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر عنده.
سياسة رشيدة:
وكذلك كان الرشيد حكيمًا فى سياسته كما كان حكيمًا فى إدارته، لقد بويع للرشيد عند موت أخيه الهادى، وكان أبوهما قد عقد لهما بولاية العهد معًا، ويروى أن الهادى قد حدثته نفسه بخلع الرشيد، وجمع الناس على تقليد ابنه العهد بعده، فأجابوه، وأحضر "هرثمة بن أعين"، فقيل له: تبايع يا هرثمة؟ فقال: يا أمير المؤمنين، يمينى مشغولة ببيعتك، ويسارى مشغولة ببيعة أخيك، فبأى يد أبايع؟
فقال الهادى لجماعة الحاضرين: شاهت وجوهكم، والله لقد صدقنى مولاى، وكذبتمونى، ونصحنى فغششتمونى، وسلم إلى الرشيد بحقه فى الولاية بعده.
وكانت سياسة الرشيد سياسة رشيدة فى الداخل والخارج، غزا الروم حتى وصل إلى "إسكدار" من ضواحى "القسطنطينية" أيام ولايته العهد، وتغلغل مرة ثانية فى بلادهم وغزاهم فى خلافته بضع غزوات، وأخذ منهم "هرقلية"، وبعث إليه ملكهم بالجزية عن شعبه، واشترط عليه الرشيد ألا يعمر هرقلية، وأن يحمل إليه فى السنة ثلاثمائة ألف دينار.
العصر الذهبى:
وكان "نقفور" قد نقض العهد الذى أعطته الملكة "إرينى"، التى كانت تحكم الروم قبله، وأرسل إلى هارون الرشيد رسالة يهدده فيها: "من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب: أما بعد؛ فإن الملكة التى كانت قبلى أقامتك مقام الرَّخ (طائر خرافى يعرف بالقوة)، وأقامت نفسها مقام البَيْدق (يعنى مقام الضعيف)، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقًا بحمل أضعافه إليها، لكن ذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأتَ كتابى هذا، فاردد ما حصل لك من أموالها، وافتدِ نفسك بما تقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك".
فلما قرأ الرشيد الرسالة غضب غضبًا شديدًا حتى لم يقدر أحد أن ينظر إليه، فدعا بدواة وكتب إلى نقفور ملك الروم ردّا على رسالته يقول:
"بسم الله الرحمن الرحيم: من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام".
وقاد بنفسه جيوشًا جرارة، ولقّنه درسًا لا يُنسى، فعاد إلى أداء الجزية صاغرًا، بعد أن خضع أمام قوة المسلمين وعزة نفوسهم.
وجاء فى فتوح البلدان للبلاذرى: "وقد رأينا من اجتهاد أمير المؤمنين هارون فى الغزو، ونفاذ بصيرته فى الجهاد أمرًا عظيمًا، وأقام من الصناعة (الأسطول) مالم يقم قبله، وقسم الأموال فى الثغور والسواحل، وهزم الروم وقمعهم".
وسمى الرشيد "جبار بنى العباس"؛ لأنه أخرج ابنه القاسم للغزو سنة 181هـ، فهزم الروم هزيمة منكرة، أدخلت الرعب فى قلوبهم، فصالحه الروم على أن يرحل عنهم فى مقابل أن يعيدوا إليه كل من أسروهم من المسلمين قبل ذلك، وكان هذا أول فداء فى الإسلام بين المسلمين والروم.
وأرسل "على بن عيسى بن ماهان" لغزو بلاد الترك، ففعل بهم مثلما فعل القاسم بن الرشيد بالروم، وسبى عشرة آلاف، وأسر ملكيْن منهم. ثم غزا الرشيد نفسه الروم وافتتح هرقلية، وأخذ الجزية من ملك الروم.
وتوطدت الصِّلات بينه وبين "شارلمان" ملك فرنسا وجرمانيا وإيطاليا وتبادلا السفراء، والهدايا.
وفى أيامه، خرج "الوليد بن طريف الحرورى" من رءوس الخوارج سنة 178هـ/ 795م، فَقُتِل بعد أن استفحل أمره.
لقد كان عصر الرشيد وابنه المأمون أرقى عصور بنى العباس قوة وعظمة وثقافة، وهو العصر الذهبى للدولة العباسية.
القضاء على البرامكة:
وقد تحدثت الدنيا عن نكبة "البرامكة" الذين كان منهم وزير الرشيد، وكانت لهم الكلمة العليا فى البلاد على يديه سنة 187هـ/ 803م، بعدما ظهروا ظهورًا غطى أو قارب أن يغطى على سلطة الرشيد ومكانته، وهو الخليفة.
لقد أصبحوا مركزًا من مراكز القوى فى الدولة العباسية، الأمر أمرهم، والكلمة كلمتهم، والأموال فى أيديهم، فما منعهم ذلك لأن يفسد حالهم، ويسوء سلوك أكثرهم، حتى إن الرشيد كان لا يمر ببلد أو إقليم أو مزرعة أو بستان إلا قيل: هذا لجعفر بن يحيى بن خالد البرمكى. كما قلدوه فى إنفاق الأموال والعطايا والمنح. وضاق الرشيد بالبرامكة، وعزم على أن يقضى عليهم، وتكون نكبتهم على يديه، ونودى فى بغداد: لا أمان للبرامكة إلا محمد بن خالد بن برمك وولده؛ لإخلاصهما للخليفة.
وكان منهم الوزراء والقادة وأصحاب الرأى، وكانوا من أصل فارسى، فلما حدث منهم ما حدث، امتنع الرشيد عن الوثوق بهم، واختار وزراءه ومستشاريه من العرب، وجعل الفضل بن الربيع الذى كان أبوه حاجبًا للمنصور والمهدى والهادى وزيرًا له.
وكان الفضل بن الربيع شهمًا خبيرًا بأحوال الملوك وآدابهم، فلما ولى الوزارة جمع إليه أهل العلم والأدب. وما زال الفضل ابن الربيع على وزارته حتى مات الرشيد سنة 193هـ/ 809م.
العامة وهارون الرشيد:
وقبل أن ننتقل بحديثنا عن هارون الرشيد إلى غيره من الخلفاء العباسيين، تبقى كلمة لابد من قولها: فقد ارتبط اسم هارون الرشيد فى أذهان العامة بحكايات ألف ليلة وليلة، باللهو والمجون، وما كانت هذه حقيقة الرجل من قريب أو بعيد، وإنما عمد المستشرقون والمستهترون إلى تشويه صورة الرجل، لكى تبدو صورة الخلافة الإسلامية مشوهة، وأن المسلمين قوم لاهَمَّ لهم إلا إشباع غرائزهم، لا يصلحون لقيادة الأمم وعمارة الأرض.
أما حقيقة هارون الرشيد، الذى أعز الله به الإسلام والمسلمين، وأذل به أعداء الدين، فهو مسلم حق، وعابد، ومجاهد بنفسه وماله فى سبيل عزة هذا الدين وإعلاء كلمة الله فى أرضه.
كان الرشيد يكثر من صلاة النافلة إلى أن فارق الدنيا، وكان يتصدق وينفق على الحجيج من صلب ماله، وكان يحب الشعر والشعراء، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء فى الدين، ويسرع الرجوع إلى رحاب الحق إذا ذكر. حدث أنه حبس أبا العتاهية الشاعر، ووكَّل به رجلا يكون قريبًا منه لينظر ما يقول ويصنع، فكتب أبو العتاهية على الحائط:
أما والله إن الظلم لــــؤم وما زال المسىء هو الظلـوم
إلى ديان يوم الدين نمضـى وعند الله تجتمع الخصــوم
فجاء الرجل فأخبر هارون الرشيد، فبكى الرشيد، وأطلق أبا العتاهية واعتذر إليه واسترضاه.
وحج ذات مرة، فرآه الناس وقد تعلق بأستار الكعبة يقول: "يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، صلّ على محمد وعلى آل محمد، واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا؛ يا من لا تضره الذنوب، ولا تخفى عليه العيوب، ولا تنقصه مغفرة الخطايا، صلّ على محمد وعلى آل محمد، وخِره لى فى جميع أمورى. يامن خشعت له الأصوات بأنواع اللغات، يسألونه الحاجات، إن من حاجتى إليك أن تغفر لى ذنوبى إذا توفيتنى، وصُيِّرت فى لحدى، وتفرق عنى أهلى وولوا؛ اللهم لك الحمد حمدًا يفضل كل حمد، كفضلك على جميع الخلق؛ اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد صلاة تكون له رضا، وصلّ عليه صلاة تكون له ذخرًا، واجزه عنا الجزاء الأوفى. اللهم أحينا سعداء، وتوفنا شهداء، واجعلنا سعداء مرزوقين، ولا تجعلنا أشقياء مرجومين".
هذا هو هارون الرشيد، الصورة المضيئة لخليفة المسلمين. والمسلم المحتذى به فى الأمور، ويكفيه شرفًا أنه ما مات حيث مات إلا وهو خارج إلى الرى فى موكب الجهاد لنشر الدين وحماية أرض الإسلام، فرحمة الله عليه.
ويأتى بعد عصر الرشيد عصرَا ولديْه الأمين والمأمون.







رد مع اقتباس
قديم 01-08-2014, 01:16 PM   رقم المشاركة : 35
ابو جواد
رائدي فـعـّـال
الملف الشخصي






 
الحالة
ابو جواد غير متواجد حالياً

 


 

خلافة الأمين
(193-198هـ - 809-814م)
الأمين بن هارون الرشيد ولد سنة 170هـ/ 787م ببغداد، أمه "زبيدة" بنت جعفر بن المنصور، فليس فى خلفاء بنى العباس مَنْ أمه وأبوه هاشميان غير الأمين.
بينما أخوه "المأمون" والذى كان يكبره بستة شهور فكانت أمه فارسية ماتت بعد ولادته.
غزو الروم:
وكان الرشيد قد عهد بولاية العهد للأمين وللمأمون من بعده. وليس فى خلافة الأمين والتى دامت قريبًا من خمس سنوات 193-198هـ/809 - 814م شىء يذكر، غير أنه أعطى المجاهدين مالا عظيمًا ووجه جيشًا تابعا له لغزو الروم، وأعطى مدن الثغور المواجهة للروم شيئًا من عنايته، فأمر فى سنة 193هـ/ 809م ببناء مدينة "أذنة" وأحكم بناءها وتحصينها، وندب إليها الرجال لسكناها، أما فيما عدا ذلك، فقد مرت خلافته فى صراع بينه وبين أخيه المأمون من أجل الخلافة، انتهى بقتل الأمين وانفراد المأمون بالحكم، وكان الأمين قد تلقى علوم الفقه واللغة من الكسائى، وقرأ عليه القرآن.
مقتل الأمين:
ونشبت حروب بين الأمين والمأمون بسبب رغبة الأمين فى خلع أخيه من ولاية عهده وتولية ولده مكانه، ورفض المأمون ذلك، فشجعه قادته حتى استعرت الحرب بين الأخوين، وانتهت بانتصار المأمون وقتل الأمين سنة198هـ.







رد مع اقتباس
قديم 01-08-2014, 01:16 PM   رقم المشاركة : 36
ابو جواد
رائدي فـعـّـال
الملف الشخصي






 
الحالة
ابو جواد غير متواجد حالياً

 


 

خلافة المأمون
(198-218هـ - 814-833م)
أصبح الأمر فى المشرق والمغرب تحت سلطان المأمون وهو سابع خلفاء بنى العباس، لقد كان المأمون فى ذلك الوقت واليًا من قبل والده على "خراسان" وكان يقيم فى عاصمتها "مرو"، وكان من الطبيعى أن يفضِّلها بعد أن انفرد بالخلافة.
إنها تضم أنصاره ومؤيديه، فهو هناك فى أمان واطمئنان، وكان الفرس يودون أن يبقى "بمرو" لتكون عاصمة الخلافة، ولكنها بعيدة عن مركز الدولة، وهى أكثر اتجاهًا نحو الشرق، مما جعل سيطرتها على العرب ضعيفة، بل إن أهل بغداد أنفسهم دخلوا فى عدة ثورات ضد المأمون؛ حتى إنهم خلعوه أخيرًا، وبايعوا بدلا منه عمه إبراهيم بن المهدى.
واضطر المأمون أخيرًا أن يذهب إلى بغداد وأن يترك "مرو" للقضاء على هذه التحركات فى مهدها.
الإحسان إلى الشيعة:
كان معظم أعوان المأمون من الفرس، ومعظمهم من الشيعة، ولهذا اضطر المأمون لممالأه الشيعة وكسبهم إلى جانبه، فأرسل إلى زعماء العلويين أن يوافوه فى عاصمته (وكانت مرو فى ذلك الوقت)، فلما جاءوه أحسن استقبالهم، وأكرم وفادتهم، وما لبث بعد قليل أن عهد بولاية العهد إلى "على الرضا" وهى طبعًا خطوة جريئة؛ لأن فيها نقلا للخلافة من البيت العباسى إلى البيت العلوى.
ولم يكتفِ بهذا، بل غير الشعار من السواد وهو شعار العباسيين إلى الخضرة وهى شعار العلويين.
ورغم اعتراض أقاربه من العباسيين، فإن المأمون كان مصرًّّا على هذا الأمر، إذ كان يعتقد أن ذلك من بر على بن أبى طالب -رضى الله عنه-.
وجاءت عمة أبيه زينب بنت سليمان بن على، وكانت موضع تعظيم العباسيين وإجلالهم، وهى من جيل المنصور، وسألته: ما الذى دعاك إلى نقل الخلافة من بيتك إلى بيت على؟ فقال: يا عمة، إنى رأيت عليّا حين ولى الخلافة أحسن إلى بنى العباس، وما رأيت أحدًا من أهل بيتى حين أفضى الأمر إليهم (وصل إليهم) كافأه على فعله، فأحببت أن أكافئه على إحسانه.
فقالت: يا أمير المؤمنين إنك على بِرِّ بنى علىّ والأمر فيك، أقدر منك على برهم، والأمر فيهم.
ولكن لم يلبث "على الرضا" أن مات وكان ذلك فى سنة 203هـ/ 819م، وعلى كل حال لقد استطاع المأمون ببيعة "على الرضا" أن يقوى من سلطانه؛ لأنه بهذه البيعة أمن جانب العلويين. ولكن قامت ضد الخليفة المأمون ثورات عديدة اختلفت فى مدى عنفها وشدتها، واستطاع القضاء عليها جميعًا.
ثورة مصر:
وكان أخطر هذه الثورات جميعًا ثورة مصر؛ ذلك أن جند مصر كانوا قد اشتركوا فى خلافات الأمين والمأمون كل فريق فى جانب، وبعد أن انتهى الخلاف بفوز المأمون، ظل الخلاف قائمًا بين جند مصر، وأصبح موضع الخلاف التنافس على خيرات مصر، فكان الجند يجمعون الخراج لا ليرسل للخليفة، بل ليحتفظوا به لأنفسهم.
وقد قامت جيوش المأمون كثيرًا بمحاربتهم مع أهل مصر الذىن شاركوا فى هذه الثورات، ولكن هذه الثورات ما لبثت أن أشعلت من جديد حتى أرسل إليهم جيشًا ضخمًا، فاستطاع القضاء على الثورة نهائيًا، كما تمكن قائده "طاهر بن الحسين" من القضاء على ثورات العرب أنصار الأمين، وهكذا سيطر على الدولة سكون وهدوء.
انتشار الإسلام:
وكان المأمون يكتب إلى عمّاله على خراسان فى غزو من لم يكن على الطاعة والإسلام من أهل ما وراء النهر، ولم يغفل المأمون عن قتال الروم، بل غزاهم أكثر من مرة، وخرج بنفسه على رأس الجيوش الإسلامية لغزو الروم سنة 215هـ/830م، فافتتح حصن "قرة" وفتح حصونًا أخرى من بلادهم، ثم رحل عنها، وعاود غزو الروم فى السنة الثالثة سنة 216هـ، ففتح "هرقلة" ثم وجّه قواده فافتتحوا مدنًا كبيرة وحصونًا، وأدخلوا الرعب فى قلوب الرومان، ثم عاد إلى دمشق، ولما غدر الروم ببعض البلاد الإسلامية غزاهم المأمون للمرة الثالثة وللعام الثالث على التوالى سنة 217هـ، فاضطر الروم تحت وطأة الهزيمة إلى طلب الصلح.
يرحم الله المأمون، لقد كان عصره من أزهى عصور الثقافة العربية.
أخلاق المأمون:
كان يقول: أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف ألا أؤجر عليه، ولو عرف الناس مقدار محبتى للعفو؛ لتقربوا إلى بالذنوب!
وقال: إذا أصلح الملك مجلسه، واختار من يجالسه؛ صلح ملكه كله.
ورفع إليه أهل الكوفة مظلمة يشكون فيها عاملا؛ فوقَّع: عينى تراكم، وقلبى يرعاكم، وأنا مولّ عليكم ثقتى ورضاكم. وشغب الجند فرفع ذلك إليه، فوقَّع: لا يعطون على الشغب، ولا يحوجون إلى الطلب.
ووقف أحمد بن عروة بين يديه، وقد صرفه على الأهواز، فقال له المأمون: أخربتَ البلاد، وأهلكت العباد
فقال: يا أمير المؤمنين، ما تحب أن يفعل الله بك إذا وقفتَ بين يديه، وقد قرعك بذنوبك؟
فقال: العفو والصفح.
قال: فافعل بغيرك ما تختار أن يفعل بك.
قال: قد فعلت.. ارجع إلى عملك فوالٍ مستعطِف خير من وال مستأنف.
وكتب إلى على بن هشام أحد عماله، وقد شكاه غريم له: ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة ويكون غريمك عاريًا، وجارك طاويًا.
وهكذا كان المأمون.. حتى لقد وصفه الواصفون بأنه من أفضل رجال بنى العباس حزمًا وعزمًا وحلمًا وعلمًا ورأيًا ودهاءً، وقد سمع الحديث عن عدد كبير من المحدّثين، وبرع فى الفقه واللغة العربية والتاريخ، وكان حافظًا للقرآن الكريم.
النهضة العلمية:
جاء فى كتاب قصة الحضارة: أنه أرسل إلى القسطنطينية وغيرها من المدن الرومانية يطلب أن يمدوه بالكتب اليونانية، خاصة كتب الطب والعلوم الرياضية، وعندما وصلت هذه الكتب إلى أيدى المسلمين قاموا بترجمتها وفحصها ودراستها، وأنشأ المأمون فى بغداد "بيت الحكمة" سنة 214هـ/829م، وهو مجمع علمى، ومكتبة عامة، ومرصد فلكى، وأقام فيه طائفة من المترجمين، وأجرى عليهم الأرزاق من بيت المال، فاستفاد المسلمون من هذه الكتب العلمية، ثم ألفوا وابتكروا فى كافة العلوم، التى أسهمت فى نهضة أوروبا يوم أن احتكت بالعرب فى الحروب الصليبية وغيرها.
وكان للمدارس التى فتحها المأمون فى جميع النواحى والأقاليم أثرها فى نهضة علمية مباركة.
إلا أن الاطلاع على بعض فلسفات الأمم الأخرى قد جعل العقل يجتهد فى أمور خارج حدوده وتفكيره، ومن هنا نشأ الفكر الاعتزالى الذى يُعْلى من قيمة العقل، ويجعله حكمًا على النص دون حدود أو قيود.
الإسلام قد رفع من العقل، لكنه حدد له حدودًا يعمل فيها.
لقد سمح المأمون لأولئك الذين اعتمدوا على العقل والمنطق فى كل شىء بالتعبير عن آرائهم، ومعتقداتهم، ونشر مبادئهم من غير أن يتقيدوا بقيد أو يقفوا عند حد، فكان هذا من سوءاته التى أحدثت بين علماء المسلمين فتنة دامت تسع عشرة سنة، إلى أن شاء الله تعالى لتلك الفتنة أن تخمد، ولقد وصف الإمام السيوطى المأمون بقوله: "إنه كان من أفضل رجال بنى العباس لولا ما أتاه من محنة الناس". وانتقل المأمون إلى مولاه -سبحانه وتعالى- بعد حياة حافلة بالإنجازات فى مختلف نواحى الدولة.







رد مع اقتباس
قديم 01-08-2014, 01:17 PM   رقم المشاركة : 37
ابو جواد
رائدي فـعـّـال
الملف الشخصي






 
الحالة
ابو جواد غير متواجد حالياً

 


 

خلافة المعتصم
(218-227هـ - 833-842م)
تولى "المعتصم بالله محمد بن هارون الرشيد" الخلافة بعد أخيه المأمون، لقد بويع له بالخلافة يوم مات أخوه المأمون بـ"طرسوس".
بناء سامرَّا:
فى سنة 221هـ بنى المعتصم مدينة "سُرَّ مَنْ رَأَى" أو "سَامِرَّاء"؛ وذلك أن بغداد ضاقت بكثرة الغلمان الترك الذين جلبهم المعتصم، فاجتمع إليه رجال من بغداد، وقالوا: إن لم تخرج عنا بهذا الجند حاربناك. قال: وكيف تحاربوننى؟ قالوا: بسهام الأسحار. قال: لا طاقة لى بذلك، فكان ذلك سبب بنائه "سر من رأى" وإقامته بها.
فتح عمورية:
ولا ينسى التاريخ للمعتصم "فتح عمورية" سنة 223هـ/ 838م، يوم نادت باسمه امرأة عربية على حدود بلاد الروم اعتُدِىَ عليها، فصرخت قائلة: وامعتصماه! فلما بلغه النداء كتب إلى ملك الروم: من أمير المؤمنين المعتصم بالله، إلى كلب الروم، أطلق سراح المرأة، وإن لم تفعل، بعثت لك جيشًا، أوله عندك وآخره عندى. ثم أسرع إليها بجيش جرار قائلا: لبيك يا أختاه!
وفى هذه السنة (223هـ) غزا الروم وفتح "عمورية"، وسجل أبو تمام هذا الفتح العظيم فى قصيدة رائعة.
هذا هو المعتصم رجل النجدة والشهامة العربية، كتب إليه ملك الروم كتابًا يتهدده فيه، فأمر أن يكتب جوابه، فلما قرئ عليه لم يرضه، وقال للكاتب: اكتب.
بسم الله الرحمن الرحيم.. أما بعد، فقد قرأت كتابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع: (وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار) [الرعد: 42].
قال إسحق الموصلى: سمعتُه يقول: من طلب الحق بما هُو له وعليه؛ أدركه.
مواجهة الثورات:
لقد تحركت فى عهده ثورات: ثورة الزط، وهم قوم من السند (باكستان وبنجلاديش الآن)، وانضم إليهم نفر من العبيد فشجعوهم على قطع الطريق، وعصيان الخليفة، وكان ذلك سنة 220هـ/835م؛ حيث عاثوا بالبصرة فسادًا، وقطعوا الطريق ونهبوا الغلات، فندب "المعتصم" أحد قواده بقتالهم وانتصر عليهم.
وكانت هناك طائفة أخرى تسمى "الخُرَّمية" تنسب إلى أحد الزنادقة، ويسمى بابك الْخُرَّمى، وانضم خلق كثير من أهل فارس حول هذا الشيطان اللعين، وكان أول ظهور لهم سنة 021هـ، واستفحل أمرهم، فلما صار الأمر إلى المعتصم سنة 220هـ/ 835م، أخذ فى إصلاح ما أفسده الخرمية بقيادة الأفشين حيدر بن كاوس، فتمكن من الانتصار عليهم، وجىء بزعيمهم بابك إلى المعتصم فأمر بقطع يدى بابك ورجليه، ثم جز رأسه وشق بطنه لعنه الله. لقد قتل من المسلمين فى مدة ظهوره مائتى ألف وخمسة وخمسين ألف وخمسمائة إنسان، وأسر خلقًا لا يحصون، وأباح الحرمات، ونكاح المحرمات.
وثار أحد العلويين بـ"الطالقان" من "خراسان" وهو محمد بن القاسم بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب، فقاتله عبد الله ابن طاهر مرة بعد أخرى حتى قبض عليه وسيق إلى السجن.
وهكذا كانت تقوم ثورات ويقضى عليها، ولكن ذلك لم يمنع المعتصم من الاهتمام بالعمران والبناء فبنى مدينة سامرّا أو (سر من رأى) بشرقى نهر دجلة، ومد إليها نهرًا سماه نهر الإسحاقى.
وعندما احترقت "سوق الكرخ" عوض التجار عن خسائرهم، واهتم بالبريد فى أيامه حتى أصبحت الرسائل تصل بسرعة أكثر مما كانت عليه من قبل.
الاستعانة بالترك:
وإذا كان سابقوه من الخلفاء قد استعانوا بالفرس، فإن المعتصم كان محبّا للعنصر التركى، حتى اجتمع له منهم أربعة آلاف جندى، وأقطعهم الإقطاعات الكبيرة فى مدينة سامرّا حتى لايضايق أهل بغداد، وكما كان للفرس دورهم فى حياة الدولة العباسية منذ نشأتها فإن العنصر التركى أصبح له دوره.
رحمه الله، لقد كانت خلافته ثمانى سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، وهو ثامن الخلفاء من بنى العباس، ومات عن ثمانية بنين وثمانى بنات، وتولى الخلافة سنة ثمان عشرة ومئتين، وفتح ثمانية فتوح فكان يلقب بالمثمن، وكان طيب النفس، ومن أعظم الخلفاء وأهيبهم.







رد مع اقتباس
قديم 01-08-2014, 01:17 PM   رقم المشاركة : 38
ابو جواد
رائدي فـعـّـال
الملف الشخصي






 
الحالة
ابو جواد غير متواجد حالياً

 


 

خلافة الواثق بالله
(227-232هـ/ 842-847م)
ولقى المعتصم ربه، وجاء من بعده ابنه الواثق بالله هارون بن المعتصم سنة 227هـ/ 842م.
أدب الواثق:
وكانوا يسمونه المأمون الصغير لأدبه وفضله، وكان المأمون يجلسه وأبوه المعتصم واقف، وكان يقول: يا أبا إسحاق لا تؤدب هارون، فإنى أرضى أدبه، ولا تعترض عليه فى شىء يفعله.
قال حمدون نديم المتوكل: ما كان فى الخلفاء أحلم من الواثق ولا أصبر على أذى وخلاف.
دخل مؤدب الواثق هارون بن زياد عليه، فأكرمه الواثق، وأظهر من بره ما شهّره به، فقيل له: يا أمير المؤمنين؛ مَنْ هذا الذى فعلتَ به ما فعلت ؟ قال: هذا أول من فَتَق لسانى بذكر الله، وأدنانى من رحمته. وقال يحيى بن أكثم: لم يحسن أحد من خلفاء بنى العباس إلى آل أبى طالب إحسان الواثق، ما مات وفيهم فقير.
قال الواثق لابن أبى دُؤاد وزيره، وقد رجع من صلاة العيد: هل حفظت من خطبتى شيئًا؟ قال: نعم قولك يا أمير المؤمنين: "ومن اتبع هواه شرد عن الحق منهاجه، والناصح من نصح نفسه، وذكر ما سلف من تفريطه، فطهر من نيته، وثاب من غفلته، فورد أجله، وقد فرغ من زاده لمعاده، فكان من الفائزين".
هذا هو الواثق بالله، كانت خلافته خمس سنوات، قضى فيها على الثورات التى قامت فى عهده، ولقَّن الخارجين على الدين والآداب العامة درسًا لا ينسى، وعزل من انحرف من الولاة، وصادر أموالهم التى استولوا عليها ظلمًا وعدوانًا، وأغدق على الناس بمكة والمدينة حتى لم يبقَ سائل واحد فيهما.
وفى عهده فتحت جزيرة "صقلية"، فتحها الفضل بن جعفر الهمدانى سنة 228هـ/ 843م.
وقد رأينا أن العصر العباسى الأول قد اشتمل على عهود تسعة خلفاء يبدأ حكمهم بأبى العباس السفاح سنة 132هـ/ 750م، وينتهى بتاسع الخلفاء العباسيين وهو الواثق الذى توفى سنة 232هـ/ 847م.
ولم يكد عهد المعتصم ينتهى حتى ساد الضعف والانحلال وأخذا يزيدان يومًا بعد يوم حتى انتهت الدولة العباسية على يد هولاكو التترى سنة 657هـ/ 1258م، وكأن هذه الدولة التى عاشت خمسة قرون لم تكن زاهرة إلا فى قرنها الأول ثم عاشت قرونها الأربعة الباقية فى ضعف متزايد.







رد مع اقتباس
قديم 01-08-2014, 01:17 PM   رقم المشاركة : 39
ابو جواد
رائدي فـعـّـال
الملف الشخصي






 
الحالة
ابو جواد غير متواجد حالياً

 


 

العصر العباسى الثانى
(عصر نفوذ الأتراك)
(232-334هـ/847 -946م)
يبدأ العصر العباسى الثانى بخلافة المتوكل سنة 232هـ/ 847م، وينتهى فى 334هـ/ 946م، فى خلافة المستكفى بالله عبدالله بن المكتفى بن المعتضد.
ويعرف العصر العباسى الثانى بعصر "نفوذ الأتراك" حيث برز العنصر التركى، واستأثر بالمناصب الكبرى فى الدولة، وسيطر على الإدارة والجيش.
وقد تمت الاستعانة بهذا العنصر التركى المجلوب من إقليم "تركستان" و"بلاد ما وراء النهر"، استعان بهم المأمون والمعتصم فى العصر "العباسى الأول".
وظهرت بوادر هذا الضعف فى مستهل هذا العصر الذى تختلف ملامحه عن العصر العباسى الأول.







رد مع اقتباس
قديم 01-08-2014, 01:18 PM   رقم المشاركة : 40
ابو جواد
رائدي فـعـّـال
الملف الشخصي






 
الحالة
ابو جواد غير متواجد حالياً

 


 

خلافة المتوكل
(232 - 247هـ/ 947 - 861م)
هو عاشر الخلفاء العباسيين، المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بن الرشيد.
لقد بويع له بعد الواثق، وبدأ عهده بداية موفقة، فقد أمر بإظهار السنة، والقضاء على مظاهر الفتنة التى نشأت عن القول بخلق القرآن.
وكتب إلى كل أقاليم الدولة بهذا المعنى، ولم يكتف بهذا، بل استقدم المحدِّثين والعلماء إلى مدينة "سامرَّا" وطلب منهم أن يحدثوا بحديث أهل السنة لمحو كل أثر للقول بخَلْق القرآن، وراح العلماء يتصدون لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، وأظهر المتوكل إكرام الإمام "أحمد بن حنبل" الذى قاوم البدع، وتمسك بالسنن، وضرب وأوذى وسجن.
لقد استدعاه المتوكل إليه من "بغداد" إلى "سامرا" وأمر له بجائزة سنية، لكنه اعتذر عن عدم قبولها، فخلع عليه خِلْعَةً عظيمة من ملابسه، فاستحيا منه الإمام أحمد كثيرًا فلبسها إرضاء له، ثم نزعها بعد ذلك.
ويذكر للمتوكل تعيينه ليحيى بن أكثم لمنصب قاضى القضاة، وكان يحيى بن أكثم من كبار العلماء، وأئمة السنة، ومن المعظمين للفقه والحديث.
هذا ولم يَخْلُ عهده من فتن وثورات قضى عليها وأعاد الأمن والطمأنينة للبلاد.
غارات الروم:
وفى سنة 238هـ قام الروم بغزو بحرى مفاجئ من جهة دمياط، وهم الذين أدبهم المعتصم وأخرسهم فى واقعة عمورية، لكنهم بعثوا بثلاثمائة مركب وخمسة آلاف جندى إلى دمياط، وقتلوا من أهلها خلقًا كثيرًا، وحرقوا المسجد الجامع والمنبر، وأسروا نحو ستمائة امرأة مسلمة، وأخذوا كثيرًا من المال والسلاح والعتاد، وفر الناس أمامهم، وتمكن الجنود الرومان من العودة إلى بلادهم منتصرين.
ولم تمضِ ثلاث سنوات على هذا الغزو حتى عاود الروم عدوانهم على البلاد؛ فأغاروا على ثغر من الثغور يسمى "عين زربة" (بلد بالثغور قرب المصيصة بتركيا حصَّنها الرشيد)، وأسروا بعض النساء والأطفال، واستولوا على بعض المتاع.
واستمرت المناوشات ومعارك الحدود بين الروم والمسلمين منذ سنة 238هـ -853م وحتى سنة 246هـ-860م بقيادة على بن يحيى الأرمنى.
وكان الروم قد أجهزوا على كثير من أسرى المسلمين الذين رفضوا التحول إلى النصرانية؛ لأن أم ملك الروم كانت تعرض النصرانية على الأسارى فإن رفضوا تقتلهم، وتم تبادل الأسرى بمن بقى حيّا من المسلمين فى السنتين الأخيرتين.
غارات الأحباش:
وعلى حدود مصر وبالقرب من بلاد النوبة، كان المصريون يعكفون على استخراج الذهب والجواهر الكريمة، وإذا بطائفة من الأحباش على مقربة من "عيذاب" على البحر الأحمر يعرفون باسم "البجة" يهجمون على تلك المناجم، ويقتلون عددًا كبيرًا من عمالها المسلمين، ويأسرون بعض نسائهم وأطفالهم مما جعل العمل فى هذه المناجم يتوقف أمام هذه الهجمات.
ويحاط المتوكل علمًا بما حدث، ويستشير معاونيه، ولكن معاونيه أخبروه بما يعترض إرسال الجيش من عقبات تتمثل فى أن أهل "البجة" يسكنون الصحارى، ومن الصعب وصول جيش المتوكل إليهم، فلم يرسل إليهم فى بادئ الأمر، وتمادى البجة فى عدوانهم وتجرءوا، فأخذوا يُغيرون على أطراف الصعيد، حتى خاف أهله على أنفسهم وذرياتهم، واستغاث أهل الصعيد بالمتوكل، فجهز جيشًا بقيادة محمد بن عبد الله القمى من عشرين ألف رجل، على أن يعينه القائمون بالأمر فى مصر بما يحتاج إليه الجيش من طعام وشراب ومؤن.
والتقى الجيش مع هؤلاء المتمردين المعتدين، حتى فرقهم وقضى على جموعهم سنة 241هـ/ 856م، قاتلهم الله! لقد كانوا من عُبَّادِ الأصنام.
إصلاح الداخل:
وحاول المتوكل إصلاح ما فسد، فراح يعزل الكثير من عمال الولايات، ويصادر أملاكهم بعد أن عَمَّت الشكوى، وتفشى الفساد، مثلما عزل يحيى بن أكثم عن القضاء، وولى جعفر بن عبدالواحد مكانه، وكذلك عزل عامله على المعونة أبا المغيث الرافعى وعين مكانه محمد بن عبدويه.
ريح شديدة:
ولكنه لم يكد يُحكم سيطرته على العمال والولاة حتى هبت ريح سَمُوم، أكلت الأخضر واليابس، وأهلكت الزرع والضرع فى الكوفة والبصرة وبغداد، واستمرت خمسين يومًا أوقفت فيها حركة الحياة، وقتلت خلقًا كثيرًا.
زالزال مدمر:
ويشاء الله أن يأتى زلزال فيؤدى إلى قتل عدد كبير من الناس، لقد بدأت الزلازل فى السنة التى تولى فيها المتوكل أمر المسلمين حيث تعرضت دمشق لزلزلة هائلة تهدمت بسببها الدور والمنازل، وهلك تحتها خلق كثير.
وامتدت الزلزلة إلى أنطاكية فهدمتها، وإلى الجزيرة العراقية فقضت عليها، وإلى الموصل فأدت إلى وفاة خمسين ألفًا. وفى سنة 242هـ/ 857م، زُلْزِلَت الأرض زَلْزلَةً عظيمة "بتونس" وضواحيها، و"الرَّى" و"خراسان"، و"نيسابور"، و"طبرستان"، و"أصبهان"، وتقطعت الجبال، وتشققت الأرض، ومات من الناس خلق كثيرون.
أما فى سنة 245هـ، فقد كثرت الزلازل، وشملت أماكن عديدة حتى قيل: إنها عمت الدنيا. وكان لابد أن تصاب الحياة بالشلل، ويعم الخراب والدمار والبؤس.
ورع المتوكل:
هذا هو المتوكل، وهذا هو عصره، يقول أحد المقربين إليه: قال المتوكل: إذا خرج توقيعى إليك بما فيه مصلحة للناس، ورفق بالرعية، فأنفذْه ولا تراجعنى فيه، وإذا خرج بما فيه حَيْف (ظلم) على الرعية فراجعنى؛ فإن قلبى بيد الله-عز وجل-.
يقول المؤرخون: إن الخلافة طبعت فى هذا العصر بطابع الوهن والضعف لازدياد نفوذ الأتراك فى الدولة العباسية حتى أصبح خلفاء هذا العصر العباسى الثانى مسلوبى السلطة، ضعيفى الإرادة، بسبب تدخل الأتراك فى شئون الدولة، وتنصيب من يشاءون، وعزل من يشاءون، أو قتله، كما طبع هذا العصر بطابع تدخل النساء فى شئون الدولة، وكثرة تولية الوزراء وعزلهم، وتولية العهد أكثر من واحد مما أدى إلى قيام المنافسة بين أمراء البيت الواحد.







رد مع اقتباس
 
إضافة رد

« الموضوع السابق | الموضوع التالي »
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تاريخ الكالشيو العريق . رشاش :: الأخبار الرياضية والمواضيع المنقولة:: 5 11-09-2009 02:29 PM
شجرة الغردق سامي142 المنتدى الإسلامي 3 09-07-2007 04:07 PM
تاريخ الكالشيو العريق ................ رشاش :: الأخبار الرياضية والمواضيع المنقولة:: 2 09-05-2007 03:49 PM
مثل الغريق ابوراكان منتدى الأدب العربي الفصيح 5 12-07-2004 07:34 PM
التاريخ العريق للحمير احسـ العالم ـاس :: المنتدى العام :: 3 10-09-2003 02:41 PM



الساعة الآن 01:40 AM.

كل ما يكتب فى  منتديات الرائدية  يعبر عن رأى صاحبه ،،ولا يعبر بالضرورة عن رأى المنتدى .
سفن ستارز لخدمات تصميم وتطوير واستضافة مواقع الأنترنت