كيف هانت عليهم الرحم التي جمعتهم؟!..
الرحم التي أمر الله بصلتها في كتابه الكريم وأمرنا نبينا عليه
الصلاة والسلام بها في أكثر من حديث!
الرحم التي هي من الإيمان :
{من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه} البخاري ومسلم,
الرحم التي ورد في الحديث أنها معلقة بالعرش :
(الرحم معلقة بالعرش تقول : من وصلني وصله الله, ومن قطعني قطعه الله)
البخاري ومسلم,
الرحم التي قرن الله تقواه بها حيث قال تعالى :
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} النساء.
بل إنه سبحانه توعد قاطعها بوعيد تقشعر منه الأبدان,
قال تعالى:
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا
أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}
أي عقوبة أشد من اللعن والطرد عن رحمة الله؟!..
أي عقوبة أعظم من الصمم عن الحق,والعمى عن الخير؟!..
قال الإمام ابن عشور رحمه الله في تفسيرها:
"وفي الآية إشعار بأن الفساد في الأرض وقطيعة الأرحام من
شعار أهل الكفر , فهما جرمان كبيران يجب على المؤمنين اجتنابهما".
بل إن عقوبة قاطع الرحم من العقوبات المعجلة في الدنيا قبل
الآخرة,
ففي الحديث :
" ما من ذنبٍ أجدرُ أن يعجِّل اللهُ تعالى لصاحبه العقوبةَ في
الدنيا, مع ما يدِّخر له في الآخرةِ مثل البغيِ وقطيعةِ الرحمِ "
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه,وصححه الالباني.
أتساءل عن هؤلاء القاطعين للرحم كيف يمرون على هذه الآيات؟!
ربما هذا مصداق الآية , فهم استحقوا عقوبة القطيعة التي
هي الصمم والعمى عن الحق :"فأصمهم وأعمى أبصارهم"
فهم لا يرونها ولا يسمعونها وإن كانت أعينهم مفتوحة وآذانهم سليمة!,
نسأل الله السلامة والعافية!
أتساءل عن هذا الرجل الذي يصلي , ويصوم , ويحج , ويجتهد
في العبادة ليحقق أمنية كل مسلم وهي"دخول الجنة", ثم
يقطع رحمه! وهو يسمع بحديث صحيح في البخاري ومسلم :
{لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ}؛
ربما هذا القاطع لرحمه يعتذر لنفسه أن أقاربه هم الذين قطعوه!
ربما يهوّن لنفسه القطيعة بأنه ليس هو من بدأها!
ألا فليعلم أن عذره غير مقبول!
لست من يقول هذا!
بل رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ليس الواصل بالمكافئ, ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه
وصلها} رواه البخاري.
ألا فليعلم أنه يصلهم لله!,
ويمتثل لأمر الله,
ويتغافل عن أذاهم لله,
وينتظر المكافأة من الله,
فلا ينتظر منهم جزاء ولا شكورا؛
ليكن في تعامله معهم عظيما كأبي بكر رضي الله عنه الذي
كان ينفق على ابن خالته الفقير, ولما قذف بعض المنافقين
عرض عائشة رضي الله عنها كان ابن خالته ممن خاض معهم,
فأوقف الصديق النفقة وحلف أن لا ينفق عليه, وبعد أن أنزل
الله آيات براءة الصديقة أنزل قوله تعالى في سورة النور:
{وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى
وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا
أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ِ},
قال أبوبكر رضي الله عنه : بلى!
أي"بلى أحب أن يغفر الله لي"!
ما أبشع القذف والطعن في العرض!..
وما أعظم العفو والصفح!..
وما أجمل تلك القلوب النقية!..
وكما أن (عقوبة) قطيعة الرحم معجلة في الدنيا قبل الآخرة,
كذلك (ثواب) صلة الرحم معجل في الدنيا قبل الآخرة!
من يصل رحمه لله.. فليبشر بسعة الرزق , وطول العمر,
والذكر الحسن الذي يبقى حتى بعد موته, إنه وعد من الله
لا يخلف الله وعده,
بشرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم :
{مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ
رَحِمَهُ} البخاري ومسلم ؛
وهذا ملاحظ كثيرا في حياتنا , فكم رأينا من واصل بارك الله له في رزقه وعمره.
وأختم بتعليق الشيخ ابن جبرين رحمه الله على الحديث
السابق حيث قال :
"..أن الله يجازي العبد من جنس عمله ؛ فمن وصل رحمه وصل
الله أجله ورزقه , وصلاً حقيقياً , وضده : من قطع رحمه , قطعه
الله في أجله وفي رزقه.. "
فتاوى الشيخ ابن جبرين (54 / 13).
نسأل الله أن يكفي مجتمعنا قطيعة الرحم , وأن يعيدنا إلى
واحة التراحم , ويجعلنا ممن قال فيهم :
{والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون
سوء الحساب} الرعد.