سلسلة الأحاديث الصحيحة ــ المجلد الأول
للشيخ الإمام المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى
الحديث رقم 247
" إذا أسلم العبد , فحسن إسلامه , كتب الله له كل حسنة كان أزلفها , ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها , ثم كان بعد ذلك القصاص , الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف , والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عز وجل عنها " .
قال الألباني في السلسلة الصحيحة 1 / 437 :
أخرجه النسائي ( 2 / 267 - 268 ) من طريق صفوان بن صالح قال : حدثنا الوليد قال : حدثنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن # أبي سعيد الخدري # قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذكره .
قلت : وهذا سند صحيح , وقد علقه البخاري في " صحيحه " فقال : قال مالك : أخبرني زيد بن أسلم به دون كتب الحسنات . وقد وصله الحسن بن سفيان والبزار والإسماعيلي والدارقطني في " غرائب مالك " والبيهقي في " الشعب " من طرق أخرى عن مالك به .
قال حافظ في " الفتح " ( 1 / 82 ) : " وقد ثبت في جميع الروايات ما سقط من رواية البخاري وهو كتابة الحسنات المتقدمة قبل الإسلام . وقوله " كتب الله " أي أمر أن يكتب , وللدارقطني من طريق زيد بن شعيب عن مالك بلفظ " يقول الله لملائكته اكتبوا " , فقيل : إن المصنف أسقط ما رواه غيره عمداً , لأنه مشكل على القواعد .
وقال المازري : الكافر ليس كذلك , فلا يثاب على العمل الصالح الصادر منه في شركه , لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفاً لمن يتقرب إليه , والكافر ليس كذلك .
وتابعه القاضي عياض على تقرير هذا الإشكال . واستضعف ذلك النووي فقال : " والصواب الذي عليه المحققون , بل نقل بعضهم فيه الإجماع أن الكافر إذا فعل أفعالا جميلة كالصدقة وصلة الرحم , ثم أسلم , ثم مات على الإسلام أن ثواب ذلك يكتب له . وأما دعوى أنه مخالف للقواعد , فغير مسلم , لأنه قد يعتد ببعض أفعال الكفار في الدنيا ككفارة الظهار , فإنه لا يلزمه إعادتها إذا أسلم وتجزئه " انتهى .
ثم قال الحافظ : والحق أنه لا يلزم من كتابة الثواب للمسلم في حال إسلامه تفضلاً من الله وإحساناً أن يكون ذلك لكون عمله الصادر منه في الكفر مقبولاً . والحديث إنما تضمن كتابة الثواب , ولم يتعرض للقبول . ويحتمل أن يكون القبول يصير معلقاً على إسلامه , فيقبل ويثاب إن أسلم , وإلا فلا . وهذا قوي . وقد جزم بما جزم به النووي : إبراهيم الحربي وابن بطال وغيرهما من القدماء , والقرطبي وابن المنير من المتأخرين .
قال ابن المنير : المخالف للقواعد , دعوى أن يكتب له ذلك في حال كفره , وأما أن الله يضيف إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه مما كان يظنه خيراً , فلا مانع منه كما لو تفضل عليه ابتداء من غير عمل , وكما تفضل على العاجز بثواب ما كان يعمل وهو قادر , فإذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل البتة جاز أن يكتب ثواب ما عمله غير موفى الشروط . واستدل غيره بأن من آمن من أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين كما دل عليه القرآن والحديث الصحيح , وهو لو مات على إيمانه الأول لم ينفعه شيء من عمله الصالح , بل يكون هباءً منثوراً , فدل على أن ثواب عمله الأول يكتب له مضافاً إلى عمله الثاني , وبقوله صلى الله عليه وسلم لما سألته عائشة عن ابن جدعان وما كان يصنعه من الخير : هل ينفعه ? فقال : إنه لم يقل يوماً , رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين , فدل على أنه لو قالها بعد أن أسلم نفعه ما عمله في الكفر " .
قلت : وهذا هو الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه لتضافر الأحاديث على ذلك , ولهذا قال السندي في حاشيته على النسائي : " وهذا الحديث يدل على أن حسنات الكافر موقوفة , إن أسلم تقبل , وإلا ترد .
وعلى هذا فنحو قوله تعالى : ( والذين كفروا أعمالهم كسراب ) محمول على من مات على الكفر , والظاهر أنه لا دليل على خلافه , وفضل الله أوسع من هذا وأكثر فلا استبعاد فيه , وحديث " الإيمان يجب ما قبله " من الخطايا في السيئات لا في الحسنات " .
قلت : ومثل الآية التي ذكرها السندي رحمه الله سائر الآيات الواردة في إحباط العمل بالشرك كقوله تعالى : ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك , ولتكونن من الخاسرين ) , فإنها كلها محمولة على من مات مشركاً , ومن الدليل على ذلك قوله عز وجل : ( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ويترتب على ذلك مسألة فقهية وهي أن المسلم إذا حج , ثم ارتد , ثم عاد إلى الإسلام , لم يحبط , حجه ولم يجب عليه إعادته , وهو مذهب الإمام الشافعي وأحد قولي الليث بن سعد , واختاره ابن حزم وانتصر له بكلام جيد متين , أرى أنه لابد من ذكره , قال رحمه الله تعالى ( 7 / 277 ) : " مسألة - من حج واعتمر , ثم ارتد , ثم هداه الله تعالى واستنقذه من النار فأسلم فليس عليه أن يعيد الحج ولا العمرة , وهو قول الشافعي وأحد قولي الليث وقال أبو حنيفة ومالك وأبو سليمان : يعيد الحج والعمرة , واحتجوا بقول الله تعالى : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) , ما نعلم لهم حجة غيرها , ولا حجة لهم فيها , لأن الله تعالى لم يقل فيها : لئن أشركت ليحبطن عملك الذي عملت قبل أن تشرك , وهذه زيادة على الله لا تجوز , وإنما أخبر تعالى أنه يحبط عمله بعد الشرك إذا مات أيضاً على شركه , لا إذا أسلم , وهذا حق بلا شك . ولو حج مشرك أو اعتمر أو صلى أو صام أو زكى لم يجزه شيء من ذلك عن الواجب , وأيضاً فإن قوله تعالى فيها : ( ولتكونن من الخاسرين ) بيان أن المرتد إذا رجع إلى الإسلام لم يحبط ما عمل قبل إسلامه أصلاً بل هو مكتوب له ومجازى عليه بالجنة , لأنه لا خلاف بين أحد من الأمة في أن المرتد إذا رجع إلى الإسلام ليس من الخاسرين بل من المربحين المفلحين الفائزين , فصح أن الذي يحبط عمله هو الميت على كفره , مرتداً أو غير مرتد , وهذا هو من الخاسرين بلا شك , لا من أسلم بعد كفره أو راجع الإسلام بعد ردته , وقال تعالى : ( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم ) فصح نص قولنا : من أنه لا يحبط عمله إن ارتد إلا بأن يموت وهو كافر , ووجدنا الله تعالى يقول : ( إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ) , وقال تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ) , وهذا عموم لا يجوز تخصيصه , فصح أن حجه و عمرته إذا راجع الإسلام سيراهما , ولا يضيعان له .
وروينا من طرق كالشمس عن الزهري وعن هشام بن عروة المعنى كلاهما عن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله عليه السلام : أي رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم , أفيها أجر ? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسلمت على ما أسلفت من خير " .