|| .. سيُمحَى أثرُكَ :"""
ماتوا وبقِيَت آثارُهم . رَحَلُوا وما زالَ النَّاسُ يذكرونهم .
أعمالُهم تشهَدُ على جَمالِ عَطائِهم .
كثيرٌ مِن النَّاسِ يَقفونَ آثارَهم ، ويبحثونَ عن عِلمِهم ،
ويَسعَوْنَ للتَّعرُّفِ على سِيَرِهم وإنجازاتِهم .
هُم بَشَرٌ مِثلَنا ، عاشُوا بيننا وتكلَّموا بألسِنتِنا ، لكنَّهم تفوَّقُوا علينا ،
وتميَّزوا بما قدَّمُوا لأنفُسِهم مِن أعمالٍ طيِّبةٍ بَقِيَت بعد رحيلِهم ،
وانتفَعَ بها غيرُهم .
أتعرِفُ ابنَ تيمية ، ابنَ القيِّم ، ابنَ قُدامة ، ابنَ كثير ، البُخاريَّ ،
مُسلِمًا ، ابنَ رجب ، ابنَ عُثيمين ، ابنَ باز ، الألبانيَّ ؟ نعم .
هل عاصَرتَهم ؟ هل حَضَرتَ مَجالِسَهم ؟ هل صافحتَهم ؟
هل كلَّمتَهم ؟ هل تواصلتَ معهم عن قُربٍ ؟ لا .
إذًا كيف عَرفتَهم ؟ مِن خِلال آثارِهم ، كُتُبِهم ، أشرطةِ بَعضِهم ،
ثناءِ النَّاسِ عليهم ، وذِكرِهم الحَسَنِ الذي انتشَرَ بعد مَوتِهم .
هل فكَّرتَ أن تكونَ مِثلَهم ؟ أن تنحُوَ نَحْوَهم ؟ أن تقفُوا آثارَهم ؟
أن تترُكَ لَكَ أثرًا طيِّبًا وذِكرًا حَسَنًا يَذكُرُكَ بِهِ النَّاسُ بعد مَوتِكَ ؟
ليس شرطًا أن تكونَ عالِمًا مُتبحِّرًا في العِلم ،
فقد تمُوتُ ويَمُوتُ معكَ عِلْمُكَ .
وليس شرطًا أن تكونَ ذا وَجاهةٍ ومَنصبٍ ليَبقَى ذِكرُكَ .
وليس شرطًا أن تملِكَ أموالًا وكُنُوزًا ليَعرِفَكَ النَّاسُ .
ليس شرطًا أن تكونَ ذا فَصاحةٍ وبيانٍ ،
أو أن يُشارَ إليكَ بالبَنانِ ،
أو أن تكونَ مِشهورًا ومعروفًا في كُلِّ مكانٍ .
قد تقولُ : إمكانيَّاتي ضَعيفةٌ جِدًّا ، بل قد تكونُ مُنعَدِمَةً .
فأقولُ لَكَ : ليس شرطًا أن تملكَ إمكانيَّاتٍ كبيرةً .
تستطيعُ أن تصنعَ لنفسِكَ مكانًا بين النُّجومِ بأعمالٍ يسيرةٍ ،
وحَسبَ طاقتِكَ وقُدراتِكَ .
إن كُنتَ تستطيعُ الكِتابةَ فَحَسَنٌ ، اصْدَح بالحَقِّ وانشُره في كُلِّ مكانٍ .
وإن كُنتَ تستطيعُ الخَطابةَ ، فلا تتأخَّر عن صُعُودِ المنابِر بعِلمٍ يُؤهِّلُكَ لذلك .
وإن كُنتَ لا تملِكُ هذا ولا ذاك ، فبمُساعدةٍ تُقدِّمُها لِمَن يَحتاجُها ،
بكلمةٍ طيِّبةٍ تُسعِدُ بها قُلُوبَ مَن تُحدِّثُهم ، بنُصحٍ وتوجيهٍ ،
بابتسامةٍ ترتسِمُ على شَفَتَيْكَ في وجوه مَن تُقابِلُه مِن إخوانِكَ المُسلمين .
أيَصعُبُ عليكَ أن تفعلَ المَعروفَ ولو كان يسيرًا ، أو أن تَدُلَّ عليه ؟!
أمَا سَمِعتَ مِن النَّاسِ مَن يقولُ :
= فُلانٌ - رَحِمَه اللهُ - قَدَّمَ لي خِدمةً مُنذُ سنواتٍ ،
لن أنساها له طِيلةَ حياتي ؟
= ما رأيتُ فُلانًا في مكانٍ إلَّا والابتسامةُ تملأُ وَجهَهُ ؟
= ما طُلِبَ منه شيءٌ إلَّا وبادَرَ بتنفيذِهِ إن كان في مَقدورِهِ ؟
= لم أسمعه مرَّةً يقولُ شَرًّا ، فلِسانُه لا يَنطِقُ إلَّا بخَيْرٍ ؟
قد يَغيبونَ عَنَّا ، ويَرحلُونَ عن عالَمِنا ، تُبعِدُهم المَسافاتُ ،
أو الانشغالُ ، أو المَوتُ ، وتبقَى ذِكراهم بيننا ، وتبقَى آثارُهم
تُذكِّرُنا بِهم .
سيِّئُ ذاكَ الإنسانُ الذي إذا ذُكِرَ خافَه النَّاسُ .
يَخشَونَ الاقترابَ منه ، إمَّا لسُوءِ خُلُقِهِ ،
أو لبَذاءةِ كلماتِهِ ، أو لتَسلُّطِهِ وطُغيانِهِ .
سيِّئُ ذاكَ الإنسانُ الذي إن حَضَرَ استاءَ النَّاسُ وابتعَدُوا عنه ،
وإذا غابَ فَرِحُوا وسَعِدُوا .
توقَّف قليلًا ، وسَل نفسَكَ : هل ستُنسَينَ ويُمحَى أثرُكِ إن غِبتِ أو مُتِّ ،
أم سيبقَى ذِكرُكِ بين النَّاسِ شاهِدًا لَكِ على حُسنِ خُلُقِكِ ، وجَمالِ حُضُورِكِ ،
ورَوعةِ عَطائِكِ ؟
قد تقولُ : وما الفائِدةُ مِن ذلك ؟ وماذا سأجني مِن بقاءِ أثري بعد مَوتي ؟
سأُخبِرُكَ : ماذا لو عَرفتَ فُلانًا مِن النَّاسِ ، وكُلَّما رآكَ وَجَدَكَ مُبتسِمًا ،
ثُمَّ بدأ يُقلِّدُكَ ويبتسِمُ في وجوه مَن يَراهم ؟
ماذا لو كتبتَ كلمةً ونشرتَها بأحدِ المَواقِعِ أو المُنتدياتِ ،
أو حتَّى كتبتَها بدَفترِكَ ،
فاستفادَ مِنها كُلُّ مَن قرأها ، ورُبَّما طبَّقُوها وعَمِلُوا بها ؟
ماذا لو دَلَلتَ غيرَكَ على خَيرٍ فعَمِلَ بِهِ ، ودَلَّ غيرَه عليه ؟
ماذا لو أهدَيْتَ شخصًا كِتابًا ، فقرأه وانتفَعَ بِهِ ؟
ألَا يكونُ لَكَ أجرُ ذلك كُلِّهِ بإذن الله ؟
فهذا مُعلِّمٌ للغةِ الانجليزيَّةِ ، كان يَستهزِئُ بإحدى التَّلميذاتِ
كُلَّما سألها عن معنى كلمةٍ ، وبدأ يَضحكُ عليها ؛ لأنَّها لَثْغَاء
في حَرفِ السِّين . فكَرهت التلميذةُ هذه المادة ، وما زالت تذكُرُ
هذا المَوقِفَ لهذا المُعلِّم بعد مُرور أكثر من ثمانية عشر عامًا .
فترك له ذِكرى سيِّئةً عندها ، ورُبَّما عند غيرها .
وهذه مُعلِّمةٌ كانت تُدرِّسُ للأطفال في سِنّ ثلاث سنواتٍ ، فكانت تُعلِّمُهم
بعضَ الآدابِ والسُّلوكيَّاتِ الإسلاميَّةِ ، فأَحَبَّ الأطفالُ هذه المُعلِّمةَ .
وبعد فترةٍ مِن تركِها للعَمل ، قابَلَ بعضُ الأُمَّهاتِ هذه المُعلِّمةَ ،
فأخبرنها أنَّ الأطفال ما زالوا يذكرونَ ما تعلَّمُوه مِنها ،
ويُطبِّقونه في حياتِهم ، ويُعلِّمُونه لِمَن حولَهم .
وفي إحدى دَوراتِ تحفيظِ القُرآن الكريم ، تحدَّثَت إحدى المُحَفِّظاتِ
عن آدابِ المَسجِد ، وحَثَّت على الحِرص على صلاةِ رَكعتَيْ تحيَّةِ
المَسجِد ، وكان أكثرُ المَوجوداتِ لا َيلتزِمنَ بها ، فاستجاب كثيرٌ مِنهُنَّ
بعد هذه الكلمةِ ، وبدأن يُصلِّينَ تحيَّةَ المَسجِد مِن اليوم التالي .
وهذا رَجُلٌ كان يَخدمُ الجَميعَ ، ويُقدِّمُ المُساعدةَ لِمَن يطلُبُها منه ،
ولا يتأخَّرُ عمَّن يَقصِدُه في خيرٍ . وما زال النَّاسُ يذكرونه بخَيرٍ
ولا يَنسونَ له ما قَدَّمَ لهم مِن مَعروفٍ رغم تركه للعَمل مُنذُ أكثر
من سَبع سنواتٍ ، وما ذُكِرَ في مَجلسٍ إلَّا وأثْنَوْا عليه ، وما رأوا
أحدًا مِن أبنائِهِ إلَّا وذَكروا له مَوقفًا حَسَنًا حَدَثَ لهم معه .
فهل سيبقَى أثرُكَ بين النَّاسِ بعد رَحيلِكَ عنهم ،
وبعد مُغادرتِكَ لهذه الحياة ؟
أم سيُمحَى أثرُكَ بمُجرَّدِ غِيابِكَ عَمَّن حولَكَ ؟
وإن تركتَ أثرًا ، هل سيكونُ أثرًا حَسَنًا يَجعلُ النَّاسَ يُثنونَ عليكَ ؟
أم سيكونُ أثرًا سيِّئًا يَجعلُهم يَدعُونَ عليكَ ، أو لا يُحِبُّونَ ذِكرَ
اسمِكَ في مَجالِسِهم ؟
فاسعَ لأن يبقَى أثرُكَ لا أن يُمحَى ويندرِس بمُجرَّدِ مَوتِكَ .
ولا عليكَ مِن المُثبِّطينَ ، ولا تهتمّ بالمُحبِطينَ ، واستِعن
باللهِ سُبحانه في كُلِّ حِينٍ ، فمِنه سُبحانه العَونُ والتَّوفيقُ ،
واسأله الإخلاصَ والقبولَ .
أسألُ اللهَ لي ولَكَ حُسنَ الخاتِمةِ ، والفَوزَ برضاه سُبحانه وجنَّتِهِ .
والسَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه .