- النطفة الأمشاج:
تأخذ البييضة المللقحة شكل قطرة، وهذا يتفق تماماً مع المعنى الأول للفظ نطفة (أي قطرة).
ومعنى (نطفة أمشاج): أي قطرة مختلطة من مائين.
وهذه النطفة الأمشاج تعرف علمياً عند بدء تكونها (بالزيجوت).
ويشير القرآن الكريم إلى النطفة الأمشاج
بقوله تعالى:﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا(2)﴾ [الإنسان:2].
وهناك نقطة هامة تتصل بهذا النص وهي أن كلمة (نطفة): اسم مفرد، أما كلمة (أمشاج) فهي صفة في صيغة الجمع ؛ وقواعد اللغة تجعل الصفة تابعة للموصوف في الإفراد والتثنية والجمع.
وكان مصطلح (نطفة أمشاج) واضحاً عند مفسري القرآن الكريم الأوائل مما جعلهم يقولون: النطفة مفردة لكنها في معنى الجمع[12].
ويمكن للعلم اليوم أن يوضح ذلك المعنى الذي استدل عليه المفسرون من النص القرآني.
فكلمة (أمشاج) من الناحية العلمية دقيقة تماماً وهي صفة جمع تصف كلمة نطفة المفردة، التي هي عبارة عن كائن واحد يتكون من أخلاط متعددة تحمل صفات الأسلاف والأحفاد لكل جنين.
وتواصل هذه المرحلة نموها، وتحتفظ بشكل النطفة، ولكنها تنقسم إلى خلايا أصغر فأصغر تدعى قسيمات جرثومية (blastomeres).
وبعد أربعة أيام تتكون كتلة كروية من الخلايا تعرف بالتوتية (morula).
صورة مجهرية للنطفة في طور التوتية
وبعد خمسة أيام من الإخصاب تسمى النطفة (كيس الجرثومة) (blastocyst) مع انشطار خلايا التوتية إلى جزئين (انظري الشكل 2-6).
شكل يظهر النطفة في طور الكيس الجرثومي
وبالرغم من انقسام النطفة في الداخل إلى خلايا فإن طبيعتها ومظهرها لا يتغيران عن النطفة لأنها تملك غشاء سميكاً يحفظها ويحفظ مظهر النطفة فيها انظر شكل (2-6).
وخلال هذه الفترة ينطبق مصطلح (نطفة أمشاج) بشكل مناسب تماماً على النطفة في كافة تطوراتها، إذ أنها تظل كياناً متعدداً.
فهي إلى هذا الوقت جزء من ماء الرجل والمرأة.
وتأخذ شكل القطرة فهي نطفة.
وتحمل أخلاطاً كثيرة فهي أمشاج. وهذا الاسم للجنين في هذه المرحلة يغطي الشكل الخارجي وحقيقة التركيب الداخلي بينما لا يسعفنا مصطلح: (توتة)[22] بهذه المعاني، كما لا تعبر الأرقام المستعملة الآن عن هذه المعاني
نتاج تكوين النطفة الأمشاج:
أ: الخلق:
وهو البداية الحقيقية لوجود الكائن الإنساني. فالمنوي يوجد فيه (23) حاملاً وراثياً، كما يوجد في البييضة (23) حاملاً وراثياً أيضاً.
ويمثل هذا نصف عدد حاملات الوراثة في أي خلية إنسانية.
الشكل 2-6: شكل إيضاحي موجز لمرحلة النطفة خلال الأسبوع الأول من التخلق البشري. ومصطلح (منى) ينطبق على المرحلة من وقت الإباضة حتى الإخصاب. ومصطلح (سلالة ينطبق على عملية الاختيار عند الاخصاب. وينطبق مصطلح (نطفة أمشاج) على الوقت من تكون اللاقحة (الزيجوت) (اليوم الأول) حتى تكون التوتية والخلية الجرثومية الأولى (اليومان 4و5). ويشير المصطلح (حرث) إلى عملية الغرس التي تبدأ في اليوم السادس. Permission from Moore, K.L. The Developing Human, 4th ed., Philadel- phia, Saunders 1988
ويندمج المنوي في البييضة لتكوين الخلية الجديدة التي تحوي عدداً من الصبغات (الكروموسومات) مساوياً للخلية الإنسانية (46)، وبوجود الخلية التي تحمل هذا العدد من الصبغيات يتحقق الوجود الإنساني، وينقرر به خلق إنسان جديد لأن جميع الخطوات التالية ترتكز على هذه الخطوة وتنبثق منها، فهذه هي الخطوة الأولى لوجود المخلوق الجديد (انظر شكل:3-6).
ب: التقدير (البرمجة الجينية):
وبعد ساعات من تخلق إنسان جديد في خلية إنسانية كاملة تبدأ عملية أخرى، تتحدد فيها الصفات التي ستظهر على الجنين في المستقبل (الصفات السائدة).
كما تحدد فيها الصفات المتنحية التي قد تظهر في الأجيال القادمة، وهكذا يتم تقدير[13] أوصاف الجنين وتحديدها (انظر شكل 2-3).
وقد أشار القرآن إلى هاتين العمليتين المتعاقبتين (الخلق والتقدير) في أول مراحل النطفة الأمشاج في قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17)مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18)مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19)﴾ [عبس:17-19].
ج: تحديد الجنس:
ويتضمن التقدير الذي يحدث في النطفة الأمشاج تحديد الذكورة والأنوثة، وإلى هذا تشير الآية: قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(45)مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى(46)﴾ [النجم:45-46].
شكل 2-7: رسم تخطيطي يبين الإخصاب أو النطفة، تسلسل الأحداث التي تبدأ عندما يصل الحوين المنوي غشاء البلازما الثانوي لخلية البييضة وتنتهي باختلاط صبغيات الأب والأم في الطور المتوسط من الانقسام الفتيلي اللاقحة (الزيجوت) (أ) خلية بييضة ثانوية محاطة بعدد من الحوينات المنوية، (ب) اختفاء الاكليل الشعاع، ودخول حوين منوي إلى خلية البييضة، وحدوث الانقسام الانتصافي الثاني مما ينتج عنه تكون رحم بالغ، (ج) تضخم رأس الحوين المنوي لتكوين طليعة النواة المذكرة، (د) اندماج طلائع النواة المذكرة، (هـ) صبغيات الزيجوت مرتبة على مغزل انتصافي إعداداً للانغلاق (الفتيلي الأول) بإذن من: Philadelphia, 1988 Moore, K. L. The Developing Human, Clinially Oriented Embryology , 4th ed.
فإذا كان المنوي الذي نجح في تلقيح البييضة يحمل الكروموسوم ( y) كانت النتيجة ذكراً، وإذا كان ذلك المنوي يحمل الكروموسوم (X) كانت النتيجة أنثى (انظر شكل 2-8).
4- الحرث:
تبقى النطفة إلى ما قبل طور الحرث (الانغراس) متحركة وتظل كذلك حين تصير أمشاجاً وبعد ذلك، وبالتصاقها بالرحم تبدأ مرحلة الاستقرار التي أشار إليها الحديث النبوي (يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين يوماً…)[14]
وفي نهاية مرحلة الأمشاج ينغرس كيس الجرثومة في بطانة الرحم بما يشبه انغراس البذرة في التربة في عملية حرث الأرض، وإلى هذه العملية تشير الآية في قوله تعالى:﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ..﴾ [البقرة:223].
وبهذا الانغراس يبدأ طور الحرث ويكون عمر النطفة حينئذ ستة أيام.
وفي الحقيقة تنغرس النطفة (كيس الجرثومة) في بطانة الرحم بواسطة خلايا تنشأ منها تتعلق بها في جدار الرحم والتي ستكون في النهاية المشيمة كما تنغرس البذرة في التربة (انظر الشكلين 2-9،2-10).
ويستخدم علماء الأجنة الآن مصطلح (انغراس) في وصف هذا الحدث، وهو يشبه كثيراً في مغناه كلمة (الحرث) في العربية.
وطور الحرث هو آخر طور في مرحلة النطفة، وبنهايته ينتقل الحميل من شكل النطفة ويتعلق بجدار الرحم ليبدأ مرحلة جديدة، وذلك في اليوم الخامس عشر.
الشكل 2-8: مقارنة بين تكون المنوي والبييضة. ولا يتضمن الشكل الخلية الأولى للبييضة لأن هذه الخلايا تتمايز كلها فتصبح خلايا أولية قبل الولادة.
ويظهر في كل مرحلة تتمه صبغيات الخلايا الجرثومية. أما الرقم الظاهر في الشكل فبدل على العدد الكامل للصبغيات بما في ذلك الصبغيات الجنسية. ومن الضروري ملاحظة مايلي:
1- في أعقاب الانقسامين الجزئيين ينخفض عدد الصبغيات (46) إلى النصف (23).
2- تتكون (4) منويات من خلية منوية واحدة بينما تتكون بييضة واحدة من خلية بييضة أولية واحدة مكتملة النمو.
3- يتم المحافظة على حشوة الخلية خلال عملية تكون البييضة من أجل تكون خلية كبيرة واحدة أي خلية البييضة البالغة أو البييضة.
Permission from Moore, K.L. The Developing Human, 4th ed., Philadel- Phia, Saunders 1988
شكل 2-9: رسم يوضح تعلق الخلية الجرثومية بظهارة بطانة الرحم فيا لمراحل الأولى للغرس أو الحرث (أ) ستة أيام، تتعلق الأرومة الغازية بظهارة بطانة الرحم عند القطب الجنيني للخلية الجرثومية.
(ب) سبعة أيام، تخترق الأرومة الغازية السخدية لظهارة بطانة الرحم، وتبدأ فيا الانتشار في سداة بطانة الرحم (هيكل النسيج الضام) بإذن من:
Permission from Moore, K.L. The Developing Human, 4th ed., Philadel- Phia, Saunders 1988
الشكل (2-10) رسم يوضح انغارس الخلية الجرثومية في بطانة الرحم خلال مرحلة الحرث ويبلغ حجم ناتج الحمل حوالي امم أ- مقطع من خلية جرثومية منغرسة جزئياً في بطانة الرحم عند اليوم الثامن تقريباً، ويكون التجويف الأمنيوني على شكل شق.
Permission from Moore, K.L. The Developing Human, 4th ed., Philadel- Phia, Saunders 1988
وعليه فقد وصف القرآن الكريم كل جوانب مرحلة النطفة من البداية إلى النهاية، مستعملاً مصطلحات وصفية علمية دقيقة لكل طور من أطوارها (الشكل 3-9) ص13.
ويستحيل علمياً كشف التطورات وعمليات التغير التي تحدث خلال مرحلة النطفة من غير استخدام المجاهر الضخمة، نظراً لصغر حجم النطفة (الشكل2-10).
ولقد حدد القرآن الكريم أول مراحل النطفة بالماء الدافق فقال تعالى:﴿فَلْيَنظُرْ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5)خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6)﴾ [الطارق:5-6] وحدد آخرها بحرث النطفة أي غرسها في القرار المكين.
وفي العصر الذي ذكر فيه القرآن هذه المعلومات عن المرحلة الأولى للتخلق البشري، كان علماء التشريح من غير المسلمين، يعتقدون أن الإنسان يتخلق من دم المحيض.
وظل هذا الاعتقاد رائجاً حتى اختراع المجهر (microscope) في القرن السابع عشر، والاكتشافات التالية للحيوان المنوي والبييضة، كما ظلت أفكار خاطئة أخرى سائدة حتى القرن الثامن عشر، حيث عرف أن كلاً من الحيوان المنوي والبييضة ضروريان للحمل[15]*.
وهكذا فإنه بعد قرون عديدة يتمكن العلم البشري من الوصول إلى ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية.
شكل 2-11: رسومات توضح الخلية الجرثومية البشرية. طور الحرث من مرحلة النطفة. تشهد الأرومة الغاذية في هذه الفترة توسعاً سريعاً في حين يكون حجم الجنين صغيراً نسبياً ( ×25) تشير الأسهم إلى الحجم الفعلي للخلية الجرثومية في الفترة المحددة من الحمل.إن الوصف المفصل الوارد في القرآن الكريم والسنة يدعو للعجب نظراً لصغر حجم الخلية الجرثومية وعمر الحمل، فإذا علمت أن نهاية مرحلة النطفة (اليوم 14) تتزامن مع الوقت المتوقع عادة للحيض، ومن غير المحتمل أن تعرف المرأة أنها حامل قبل هذا الوقت أدركت أن هذا الوصف يتجلى فيه الإعجاز الإلهي. وأيقنت أنه وحي من الله سبحانه إلى النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم. Permission from Moore, K.L. The Developing Human, 4th ed., Philadel- Phia, Saunders 1988
وصف الرحم بأنه " القرار المكين ":
وصف القرآن الكريم النطفة بأدق وصف، ووصف المكان الذي تستقر فيه النطفة بوصفين جامعين معبرين، قال سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13)﴾ [المؤمنون:13].
فكلمة (قرار) في الآية الكريمة تشير إلى العلاقة بين الجنين والرحم. فالرحم (مكان لاستقرار الجنين)[16].
أما مكين فهي تشير إلى العلاقة بين الرحم وجسم الأم.
يقول الزبيدي: (قرار) معناه: (استقر واستراح)[17].
وكذلك القرار هو مكان يستقر فيه الماء ويتجمع3.
وقد وصف القرآن الكريم المكان الذي تستقر فيه النطفة (في الرحم) بأنه قرار.
وقد كشف العلم الكثير من التفاصيل لهذا الوصف الجامع المعبر.
فالرحم للنطفة ولمراحل الجنين اللاحقة سكن لمدة تسعة أشهر.
وبالرغم من أن طبيعة الجسم أن يطرد أي جسم خارجي، فإن الرحم يأوي الجنين ويغذيه.
وللرحم عضلات وأوعية رابطة تحمي الجنين داخله.
ويستجيب الرحم لنمو الجنين ويتمدد بدرجة كبيرة ليتلائم مع نموه فهو قرار له.
ويحاط الجنين بعدة طبقات بعد السائل الأمينوسي وهي الغشاء الأمينوسي المندمج بالمشيمة، وطبقة العضلات السميكة للرحم ثم جدار البطن، وكل هذا يمد الجنين بمكان مناسب للاستقرار وللنمو الجيد.
وهكذا فإن كلمة (قرار) قد استعملت في القرآن الكريم لكل هذه المعاني وغيرها، متضمنة وظائف الرحم باعتباره مكاناً مناسباً لاستقرار الجنين وتمكينه من مواصلة نموه (الشكل 2-12).
وقد جمع اللفظ الذي وصف القرآن الكريم به الرحم بقوله "قرار" كل الحقائق التي اكتشفها العلم، لبيان مناسبة الرحم لاستقرار الجنين، فهو لفظ معبر جامع.
أما كلمة "مكين" فتعني مثبت بقوة[18]، وهذا يشير إلى علاقة الرحم بجسم الأم، وموقعه المثالي لتخلق ونمو كائن جديد
ويقع الرحم في وسطا لجسم، وفي مركز الحوض وهو محاط بالعظام والعضلات والأربطة التي تثبته بقوة في الجسم. أي أنه مكين، كما قرر القرآن الكريم.
وهذا أيضاً لفظ جامع معبر عن كل المعاني التي تبين تمكن الرحم وتثبيته في جسم الأم.
وهكذا فإن كل وصف يتضمن العلاقة بين الجنين والرحم وبين الرحم وجسم الأم، قد أدخل في معنى الكلمتين (قرار) و (مكين) اللتين تعبران تعبيراً تاماً عن حقيقة الرحم ووظائفه الدقيقة ولا يفطن إلى أهمية هذين الوصفين إلا من له علم بحاجات نمو الجنين، وحاجات الرحم، لمواكبة هذا النمو حتى يخرج سليماً.