[align=center]
.
.
فِي سَاعَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ مِنَ الَّليْلِ..
لا صَوتَ غَيْرَ صَفِيرِ الرِّيَاحِ وُحَفِيفِ الأَشْجَارِ..
وَقَفَ وَرَاءَ القُضْبَانِ..
أَمْسَكَهَا بِيَديهِ اللَّتَانِ تَرْتَجِفَانِ خَوْفاً وَبَرْداً وَمَرَضَاً..
نَادَى بِصَوتٍ لايَنْطِقُ بِغَيرِ الأَلَمِ وَالأَنِينِ وَالْمُعَانَاةِ :
أَيُّهَا السَّ .. سْ .. سْ
أَيُّهَا السَّجَّـ .. سَّجـْ .. سَجـْ
أَيُّهَا السَّجّا .. نُ !
كُلُّ مَنْ وَرَاءَ القُضْبَانِ نِيَامْ..
لا أَحَدَ يُزْعجِ الْغِرْبَانَ النَّائِمَةَ عَلَى أَعْمِدَةِ السِّجْنِ سِوَاهْ ..
وَقَفَ طَوِيلاً بِانْتِظَارِ مُجِيبٍ لِنِدَائِهِ ..
وَحِينَ تَسللَ اليأَسُ إلى أَعْمَاقِه..
تَوَجّهَ إِلى سَجِينٍ آخَرَ يَنْتَظِرُ لَحْظَةَ جَرِّهِ إِلى حَبلِ الْمِشْنَقةِ ..
أَيْقَظَهُ مِنَ الَّنومِ ..
قُمْ .. انْهَضْ .. اسْتَيقِظْ ..
هيّا يَاصَدِيقِي أَرْجُوكْ..
كفَاكَ نَوماً أَيُّهَا الذَّاهِبُ إِلى عَالَمِ الأّمْوَاتِ ..
انْهَضْ أرْجُوكْ ..
أَفاقَ الآخرُ من نَومِهِ ..
أَجَابه بِصَوتِهِ البَائِسُ :
مَا الذِي تُرِيدُهُ أَيُّها الْغَبِي ُّ؟!
أوَ تَطلبُ النجدةَ مِن محكومٍ بالإعْدامْ ؟!
قَالَ له : أَرجُوكَ !
قَلْبِي يُؤلِمنِي كَثيراً ..
رُوحِي تُغَرغِرُ ..
كُلَّ أَركَانِي تَرْتَجِفُ ..
أشْعُرُ بِأَنَّ شيئاً مَا قَد حدَثَ لحِبيَبتِي !
رَدَّ عليهِ الآخر :
يَااااااااااهـ !
أَفَلا تَكفُّ عنْ تَذكُّرِ تِلْكَ الصَّبيةِ التِي أِوْدَتْ بِكَ إلى الْمَهَالكْ ؟!
لَقد أوْصلَكَ حُبُّها إلى السِّجنِ ..
وَقَريباً إلى المَوتِ !
ولا تزال تتذكرها ؟!
أجَابهُ بَاكياً :
كَيفَ لي أن أنْساَها وَقد عَرفْتُ طَعْمَ الْحيَاةِ مُنذ عَرفْتُها ؟!
كَيفَ تريدُينِي أنْ أَنْسَاهَا وهي التي أَمْضيْتُ بِانْتظَارِهَا سَنَواتٍ طِوَالٍ ..
أَلَيسَتْ مَن تَمتَنِعُ مِن الزّوَاجِ لأَجلِي ؟!
أليسَتْ من بَاعَتْ حتى أَهلَها لأجلي ؟!
أليسَتْ .. أليسَتْ .. أليسَتْ ؟!
وَأخذُ يُعدد لَه مَنَاقِبَها ثم قال : أريدُكَ أَن تُنَادي لي السَّجَّانْ ..
قَطَعَ حَديثهُ ثم قال :أن ..
إنه يشفقُ عليك ويُرد عُلى ندائك ..
فَهو لايريد أن يزيدَ مَن آلامكِ وأنتَ في الطَّريقِ إلى المَوْتِ !
قامَ معه ..
سَارا بخُطواتٍ متَثاَقلة ..
سمعَ السجانُ صوت النداء ..
قَال له بِصَوته الحَزِينُ :
أَرْ .. أَرْ .. أرْجوُك !
أريدك أن تخْرجني من هنا لبضعِ دقائق !
أشَعرُ بأن روحي ستخرجُ من مكانها !
صَدقني أيها السجان ..
أنا متأكدٌ بأن حبيبتي مريضَةً ..
أوْ تَموتَ ..
أو أي شيء ..
قلبي لايكذبني أبداً ..
أرجوك تساعد معي وأعدك أن أعودَ إلى هنا خِلال مُدة قصيرة !
فتحُ له السجان الباب ..
انطلق في ليلٍ باردٍ لايرحم ..
حافي القدمين ..
مَنْكُوشَ الشعر ..
دُمُوعه تُسَابقُه إلى ذلك المَكَان ..
وَصَل إلى الحُجْرةِ التِي وِعدتُه أنْ تَحبسَ نَفسَها بها ..
وأن تبقى بانتظاره مدى الحياة ..
وَصَل ..
وجدَ بابَها مَفتوحاً ..
وقف عِند بابِ الحُجْرة ..
أصْواتُ الضَّحكِ تَتعَالى !
قَرْعَ كؤوسٍ لايتوقف ..
اقتَربَ كثيراً من الباب ..
لم يجِد في الحُجرَةِ غير :
حبيبته !
فقدتْ صَوابَها !
وَضعَت صُورتَههُ أَمامَها !
تَخيَّلت نَفسها عروساً لَه !
لبِسِتْ الأبيض !
واحْتَفَلتْ بِنفسِها عَروسَةً لحَبيبِها السَّجينْ !
دَخل الحُجْرةَ .
اقْتربَ مِنهَا !
لم تُصدِّق مَاتَراهْ !
مَاتتْ مِن هَول الصَّدمةِ !
حَضنَها !
فشَهقَ شَهْقةَ المَوتِ الأخيرة !
فَكاَن فسَتانها الأبيضُ :
كَفناً لهُما !
.
.
[/align]