* هذا المقال من إرشيفي
سأعتذر أولاً إن انا جرحت حياء المُدن .
المُدن المولعة بالطفولة والذكريات ومراتع الشباب .
المُدن التي تختلط بطحاؤها بالدم فتسيل مع الذكريات شجناً وقصائد وبساتين .
أعتذر لأن قلمي سيشذ عن ذكرياتكم الجميلة المليئة بأشجار اللوز ومشاتل الورد والريحان .
واكتب بكائية صغيرة على صدر فتاة ناهد تنز بالحياة وهي ميتة .
كنت أتمنى أن أكون مثلكم
وكنت أتمنى أكثر لو أنني خرجت من هذه " الخرابه " بجملة واحدة مفيدة ..!!
الخفجي..
تسعة عشر عاما منذ قُدر لي أن أكون عوداً محترقاً وسط كل هذا الرماد والركام والفحم .كل شيء هنا موحش .. الأرض خربة ..والسماء سوداء والبحر هو المهرب الوحيد في الأيام النادرة التي يصفوا بها الجو ويرق . .وأي بحر ؟؟!!
سقف المنزل الذي أكتب منه بدأ يكتسي بالسواد الناتج عن هواء التكييف الملوث, وفي أخر المدينة ترتفع أعمدة الدخان من ( شعلة الشركة ) التي تصدر الغازات السامة ليل نهار. . لتصيب قلوب الصغار والكبار.. بإصابات الرئة والاختناق وضيق التنفس. .
لتصبح الخفجي من أولى المدن في التلوث.
الناس هنا طيبون في كل مكان تذهب إليه..لذلك فهم لايشتكون ولايتذمرون الجميع يقول " .... ومن ورائي الطوفان " وحيث الرغيف يكون الاتجاه ... " ولاملامة "..!!
أقف الان في الشارع المقابل لفرع شركة الراجحي المصرفية أو مايعرف بشارع البلدية ..أكثر من عشر دقائق وأنا أتقلب على الرصيف ..يمنة ويسرة لعل أحدهم يرق قلبه فيقف ملوحاً بالعبور , ولا مغيث .!
في الجهة المقابلة نساء وأطفال وشيوخ , رجل يسير على عكاز ينتظرون مثلي رحمة الله التي لانعلم متى ستنزل لكي نعبر .
السيارات تتخاطف بشكل مذهل ومرّوع .. ولوحة صدأة منحنية تحمل عبارة أثرية لكي تفسح الطريق ..وماعلم أحد بحال أحد .!
أتفهم السرعة على الطرق السريعة , بماأننا أسرى لهذه العادة .. لكن أن تسير سيارة بسرعة تقارب من المئة كيلو متر ..أمام المحال التجارية فهذا يعني اننا نعيش في مستشفى على هيئة مدينة
مستشفى للعقول والجنون .!!
في هذه المدينة وشوارعها التي تشبه الكلمات المتقاطعة ..أو متاهة البحث عن فضولي
ظلام .
ظلام دامس ..
وهذا أكثر الأشياء التي أصابتني بالحيرة ..!
هناك أعمدة إناره.. لكنها فقدت البصر منذ زمن بعيد ..وبعضها أعور بعين واحدة تُرعب ولاتنير ..!!
ولكي تُحدد الطريق دون أن تفقد النافذ , عليك أن تعد:
تجاوزت النافذ الأول
أقترب الان من النافذ الثاني ..وهكذا..
ولو أخطأت في العد فربما سيُسمع لك خبر من صلالة حيث الضباب والجبل .
يشق المدينة عرضاً وطولا ثلاثة طرق
شارع مكه
شارع البلدية
شارع الثقافة..
وفي نهايتها تتحوصل بك الطرق ..
إلى أين انت ذاهب ..؟
إذا أخذت الشارع اليمين فمع السلامة.. إلى الغربية والتملك
أما إذا كان إتجاهك يسار فمرحباُ بك في المحدود .
" والمحدود حكاية أخرى "
معادلة بسيطة وسهلة , وكل أهلها يعرفونها ويدركونها تماماً
لكن لماذا وجدت نفسي ذات يوم بالقرب من بوابة رأس مشعاب .؟ لاأدري ..!!قسماً بالله لاأدري.
شخصياً قلت هو ضعف النظر الذي أصابني بالعمى لحظة أن خرجت من قلب المدينة إلى الأوردة والشرايين المؤدية إلى حيث الهلاك ...عشرات الشاحنات تمر بسرعة هائلة ومخيفة ..
وظلام فجائي يكاد يختلع قلبك ويعمي بصرك وبصيرتك .. فلا تعلم هل أنت من أهل اليمين . أم من أهل الشمال .
مدخل يحمل عبارة ( الخفجي ترحب بكم ) . . تعقبه إشارة ... تعقبها إشارة أخرى ثم دوار يصيبك بالصرع ..ثم دوار آخر حتى تصل إذا قُدر لك أن تصل .
هذه المدينة التي تسقي العالم بأسره ,لايوجد بها نفق ,لايوجد بها " كوبري " تتسلق عليه لتهرب إلى بيتك حامداً ربك على الهدوء والجلوس الطويل والملل .
كنت أتجول مع صديقي الوافد الجديد للبحث عن شقة ..وفي خضم المعركة بدا لنا مبنى يقف على بابه رجل أمن , وتربعت على الحائط لوحة ضخمة مزركشة كتب عليها " إدارة سجون الخفجي "
هنا..؟
وسط الناس والزحام والضيق..؟
في بداية عهدي كنت ألاحظ الزحام الشديد حول مبنى في منطقة مليئة بالجاليات الشرق أسيوية ..ولكي تعرف ماهية المبنى عليك أن تنعطف جهة اليمين ..ولاأنعطف .!!
كنت أحسب انه مطعم هندي ..!! أو كافتيريا تقدم وجبات حارة لهؤلاء الجاليات عطفاً على أكثريتهم الهائلة في هذا المكان .
في الجهة المقابلة تماماً تقع ادارة مرور الخفجي . . المحاذية لمبنى تابع لمديرية الدفاع المدني المقابلة لمقر اللواء الرابع والعشرين التابع للحرس الوطني . . الملاصقة لمبنى ادارة الجوازات ..!! القريب من مدرسة أهلية..المحاذي لمبنى بلدية الخفجي ..!!
تكتل هائل ..وزحام شديد وصداع يفلق القلب والرأس ... يهدم الروح
..
كل ماسبق ذكره من مباني عدا التي نسيتها تقع في منطقة لاتتجاوز كيلو مترين ..!!
أراني قد بالغت .؟
ابداً والله , وكل من يقرأ ماكتبت من أهل الخفجي ستخضع جوارحه وقلبه للحقيقة .
الحقيقة التي تنم عن شيء واحد ألا وهو الفساد الكبير الذي ينتشر كالسحاب
هل أدرجت هذه المدينة يوماً ما في ميزانية الدولة ..؟
متى ..؟
وكيف..؟
وأين ذهب المال أيها الرجال ..؟
ستنهمر الأسئلة كالمطر .وستصرخ حتى ينشق حلقك ولن يجاوبك سوى الصدى .
المدينة مُهملة ..وكأنها خارجه للتو من عصر طافح بالحجارة .
حوادث السيارت داخل المدينة وخارجها بالعشرات ..وستكون فائزاً لو عدت إلى بيتك دون أن ترى مصرع سيارة على رصيف أوحديد يحتضن حديد في الطريق السريع ذو الاتجاه الواحد!!
الحوادث هنا أكبر ممارأيته طوال حياتي وفي أي مدينة أخرى بعد أن توفرت كل العوامل والظروف المساعدة .
حينما استفاق الرفاق على الوضع المأساوي للمدينة بدأو بإجراءات العمليات الجراحية وتشريح الجثة ..الأحافير والأخاديد تشطر الجسد المريض وصولاً إلى عضلة القلب
شارع مكه أكثر الطرق حيوية والمصب الذي يمتص الزحام وتراكم الحديد والبشر .. الأب الحقيقي للشوارع الخلفية المكتظة .. قتله الرفاق غيلة ذات ليلة وسمر
لقد اكتشفوا بعد كل هذه السنين أن المدينة تختنق , ياله من إكتشاف مابعده إكتشاف .. ولابد من إجراء تعديلات واغلاق جزء منه.
فكرة رائعة .. ولكن إلى أين ..؟
بالطبع إلى الإكتظاظ السابق ذكره .
إلى الزحام الرهيب وتكتل الدوائر الحكومية في منطقة واحدة ..
ألم يكن من المفترض إجراء بعض التعديلات على هذا الجسد المريض ..؟ قبل المساس بعضلة القلب ..؟
ياقلب ..!!
قبل فترة وجدت الأخوة منهمكين في تغيير إشارات المرور .
قلت ربما ان هناك ألوان جديدة إخترعها العلم , فعلمت أنها إشارات جديدة تساعد ضعاف البصر على رؤية الإشارات من بعيد "
لا ياشيخ ..!
طيب احلف
وهل بقي بصر أو بصيرة ..؟
لكنه مشروع .. مشروع وينسحب كغيره ثم ننساه قبل ان تداهمهم التخمة ..!!
الان المدينة مصابة بشلل رباعي ..مع حمى رعاش ناتجة عن زيادة درجة حرارة المهرولون من الشوارع الضيقة بحثاً عن فضاء وسماء .
وقد لاتفاجأ.. ظُهراً بأنك لاتزال لم تخرج حدود حارتك مذ قررت صباحاً أن تذهب إلى العمل , بفعل الحفريات.
ولوداهمك الشوق لرؤية صديقك في الناحية الأخرى من الخفجي فأنصحك أن تسافر إلى الدمام أو الكويت.
تعبت ...........!
لكم الحياة ..!!
وقبل أن أترك لكم الحياة, وأعود من حيث جئت ، اسائل النفس واسألكم :
من قتل الخفجي ؟؟!!
المواضيع المتشابهه
العرض العادي
