نحن بني البشر – مهما عظمت إمكاناتنا – نظل محدودين على مستوى الفهم والإدراك وعلى مستوى التصرف والحركة، ونحن مفطورون على حب الخير والاستيلاء على كل شيء والاستزادة من كل نفع، فحين تكون هناك خيارات فإنّك لا تستطيع أن تجمع بينها، وإذا فعلت ذلك فإنك قد تحصل على نتائج ضعيفة أو مشوهة، وقد لا تحصل على أي شيء. والحقيقة أن معرفة الخيارات المتاحة وفهم طبائعها، وكيفية التعامل معها.. تحتاج إلى درجة عالية من العلم المركَّز والتخصص العميق، وهذا ما يفتقده كثير من الناس.
وهذه بعض التطبيقات
1- تثور اليوم أسئلة كثيرة حول العلاقة التي ينبغي أن تقوم بين العالم الإسلامي، وبين أُمم الأرض، ونجد أن هناك من يؤيد العزلة والانفتاح بضوابط وبأقل قدر ممكن، وذلك بسبب التحلل الأخلاقي الرهيب الذي يموج به العالم. وهناك من يرى أنّ الدول التي أخذت بخيار العزلة – أو فُرِض عليها – ليست في أخلاقها ومعيشتها أحسن حالاً من تلك التي انخرطت في علاقات شبه مفتوحة من كل الشعوب الأخرى، إن لكل خيار ميزاته ومشكلاته، ولا نستطيع أن نأخذ بأي خيار مجرداً من تبعاته.
وإذا قلنا ننفتح في الأمور التقنية، وننعزل في الأمور الأخلاقية والفكرية كان علينا أيضاً أن ندفع ثمن العزلة وثمن الانفتاح إلى جانب جني فوائدهما. الأخذ بخيار الانفتاح يفيد في نقل الخبرات العالمية، وقد يوفر بعض فرص العمل، ويساعد على توطين التقنية، لكنه سيظل يشكل نوعاً من الخطر على الهويَّة ونقاء المفاهيم والأخلاق والعادات الإسلامية والمحلية مهما كان احتياطنا عظيماً.
وحين نرى الأخذ بخيار العزلة ووضع القيود على أشكال الاتصال مع العالم الخارجي، فإننا سنحرم أنفسنا من إيجابيات الانفتاح، وسيكون الوضع العقدي والخلقي بعيداً نسبياً عن التأثر بما هو خارج الحدود، لكن ستكون أخلاقنا وقيمنا ونظمنا معرَّضة للاختناق والتحلل الذاتي بسبب البعد عن دواعي التجديد والتطوير، وهذا ما تعاني منه بعض الدول الإفريقية اليوم. إذن لكل خيار ضرائبه التي ينبغي أن تُدْفَع عن طيب خاطر.
2- لا نستطيع أن نهاجم الأعداء، ونُبرِز مثالبهم وسلبياتهم، ونقوم بتشويه صورتهم أمام جماهيرنا، ثمّ نستفيد منهم، أو نفهمهم على حقيقتهم، لأننا نحاول الجمع بين خيارين لا يمكن الجمع بينهما. إننا حين نشوِّه سمعة العدو، وننظر إلى ذلك على أنه أداة لتعزيز ثقة جماهيرنا بأنفسها، فإننا نوجد حواجز نفسية تحول دون التفاعل مع فضائل العدو، ونلقي على الأعين غشاءً يحول دون رؤيتها.
إن إنصاف العدو هو الحق الذي لا ينبغي أن نحيد عنه، وفي اتباع الحق دائماً الخير على المدى البعيد، وإن كان ذلك قد يؤدي إلى افتتان الناس ببعض ما لدى الأعداء، كما أنه قد يجعل صفوفنا في مواجهته وكأنها هشة، فهذه هي طبائع الأشياء، حيث إننا لا نستطيع أن نحصل على كل شيء.
3- أمام أحدنا خيار أن يعيش بالعرض، أي يعطي لنفسه كل ما تشتهيه غير آبه بما سيحدث له. وأمام الواحد منا خيار آخر، هو أن يعيش حياته بالطول، فيضغط على نفسه، ويحرمها من بعض مشتهياتها، وهو بذلك يأخذ بالأسباب التي تساعد على عبور مرحلة الشيخوخة بأقل قدر ممكن من الأمراض بإذن الله – تعالى – ونحن نلاحظ أنّ الذين يبلغون التسعين والخامسة والتسعين هم في الأعم الأغلب من الذين أخذوا بهذا الخيار. هل يستطيع المرء أن يعيش حياته بالطول والعرض؟ هذا ممكن، لكنه نادر، حيث إن على من أراد لأجهزته وأعضائه أن تعمل بكفاءة مدةً طويلةً أن يحميها ويصونها؛ ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ.
4- لا تستطيع أي جماعة أن تكون لها فتوحات سياسية كبيرة إلى جانب فتوحات روحية وأخلاقية عظيمة بسبب اختلاف طبيعة العمل الدعوي عن طبيعة العمل السياسي واختلاف متطلبات كل منهما.
إن تحقيق إنجازات روحية ودعوية يتطلب من الداعية الاستقامة والصدق والعفوية وإشعار المدعوين بالنزاهة والبعد عن المصالح الشخصية، وهذا يجعل الناس يرتبطون ويقتدون به، ويتفاعلون مع أخلاقه... أما العمل السياسي، فله شأن مختلف حيث إنّ السياسة تظل مركزاً للموازنات والتحالفات والحلول المتوسطة ومن ثم فإنّ النجاح في العمل السياسي قد يتطلب أن يُظهر السياسي بعض الأمور، ويخفي بعضها الآخر، كما يتطلب إطلاق وعود لا يمكن تحقيقها، وأموراً أخرى من هذا القبيل... وهذا كله يشوش على الصورة الذهنية التي يرسمها الناس عادة للداعية والإمام والقدوة.
5- حين نريد القيام بعمل تربوي أو إنتاجي أو صناعي، فإن أمامنا دائماً خيارين: خيار التركيز على (الكم) وخيار التركيز على (الكيف) وبما أن طاقاتنا محدودة، وتجويد الكيف وتكثير الكم ليسا محدودين فإن علينا أن نغض الطرف عن أحدهما مقابل الاهتمام بالآخر، ونجد هذا واضحاً حين نقارن السيارات الكورية بالسيارات الألمانية حيث يركِّز الكوريون على (الكم) ويحققون الأرباح من وراء غزارة الإنتاج على حين يركِّز الألمان على (الكيف) ويحققون الأرباح من وراء الجودة والنوعية؛ وقل مثل هذا في التربية، حيث إن شرح الدرس لعشرين طالباً أفضل بكثير من شرحه لمئتي طالب، كما أن نتائج متابعة أم لثلاثة أطفال أفضل في الغالب من نتائج متابعتها لعشرة وذلك لأنّ الوقت المتوفر للأُم من أجل الجلوس مع أبنائها محدود، وهي إما أن توزعه على ثلاثة أو على عشرة؛ ومن هنا برزت لدينا قاعدة مهمة تقول: (تعاظم الكم يكون دائماً على حساب الكيف) بعض الناس لا يدركون هذا المعنى.
كيف نتعامل مع هذا
1- نحن نحتاج إلى رؤية شاملة للخيارات المتاحة، حيث لا ينبغي أن نلتقط أحد الخيارات على عجل، من غير تمحيص للخيارات الأخرى.
2- (فقه الطرق المسدودة) حيث إن معرفتنا بعدم إمكانية الجمع بين الخيار الفلاني والخيار الفلاني تعني أننا ندرك أنّ الطريق إلى الحصول على الشيء الفلاني مع الشيء الفلاني طريق مغلق لا سبيل إلى السير فيه. وهذا الفقه مع أنه تعلوه مسحة تشاؤمية وسلبية إلا أنه عظيم النفع في توفير الجهود والأعمار، لهذا أتمنى أن ينبري بعض الكتاب ذوي البصيرة النافذة إلى شرح أكبر عدد ممكن من الأمور التي لا نستطيع أن ننجزها أو نحصل عليها.
3- حين يتحسن مستوى الرؤية لدينا، فإننا نعرف السلبيات التي تترتب على كل خيار، كما أننا نعرف إيجابياته ومنافعه، وهذا يجعلنا نصير إلى تبني الخيارات الأعظم فائدة والأقل كلفة، وإذا حاولنا الجمع بين خيارين أدركنا الثمن الذي سندفعه لذلك، وأخذنا في تلافي الآثار السلبية المترتبة عليه.
4- لن يكون الذكاء كافياً في معرفة مشكلات الجمع بين الخيارات المتنافرة، ولابدّ معه من العلم والمعرفة والقراءة في الكتب المتخصصة.
م/ن
دمتم بفضل الله