الحمد لله وحده، والصلاة على رسوله وعبده، وبعد..
فاعلم أيها المسلم أن الله سبحانه إنما خلق الخليقة لعبادته سبحانه، فأمرهم بتوحيده وإفراده بالعبادة، فمن وحده حق التوحيد عاش أمنا في هذه الدنيا وفي الآخرة، واطمئن عيشه وهدأت نفسه، ومن أشرك بالله جل وعلا أحدا كانت حياته هما وغما وإذا به يقاد إلى نار جهنم خالدا فيها أبدا.
فمن أراد بحبوحة العيش في الدارين فليوحد الله جل وعلا حق توحيده [وليستقم] على طاعته.
والتوحيد هو أن يصرف العبادة لله وحده ولا يصرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله، فإنه إن صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله جل وعلا عُدّ مشركاً، فلا يقبل الله منه صرفا ولا عدلاً، ولا يُتقبَّل منه عمل وإذ به في الآخرة من الخاسرين، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}))[النساء:48]، ومن تأمل بما أعده الله سبحانه وتعالى للموحدين الذين يفردونه بالعبادة، سارع إلى ذلك وعلم أن عقوبة الشرك لا عقوبة أشد منها.
وانظروا إلى فضله سبحانه وتعالى حيث أنه يجازي صاحب المعصية بالمغفرة إذا كان موحدا فيدخله في رحمته ويعامله بعفوه وإحسانه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفضل العظيم بقوله: "يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلا (يعني من الذنوب والمعاصي)، كل سجل منها مد البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئا فيقول: لا يا رب. فيقال: ألك عذر ألك حسنة، فيهاب الرجل فيقول: لا. فيقال: بلى إن لك عندنا حسنات وإنه لا ظلم عليك.{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَاوَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ }47 الأنبياء ، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول: أي ربِّ، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم. فتوضع السجلات في كفه والبطاقة في كفه فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء"، لكن هذا قال لا إله إلا الله وعلم أن معناها: لا معبود بحق إلا الله، فهو وإن كان مسرفا على نفسه بالمعاصي ولكنه لم يصرف نوعا من أنواع العبادة لغير الله.. فلا يصلي مع المسلمين وهو يدعو عليا أو الحسين أو العباس أو غيرهم.
ولا يصلي مع المسلمين وقلبه معلق في القبور، فإذا أصابته مصيبة نادى يا علي يا حسين يا خضر يا عباس، لا.. لا يقول هذا.
ولا يقول: يا بخت فلان (ولا نخاف من السيد فلان يشوّر فينا)، لا يقول هذا، ولا يعتقده.
ولذلك قال أهل العلم في قول الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [سورة النساء 31]: إن من اجتنب كبائر الذنوب يكفّر الله عنه الصغائر، وكذلك من ترك الشرك فإن الله سبحانه وتعالى يغفر له ما وقع منه الكبائر لأنه إن كان موحداً دخل تحت رحمة الله، وهو سبحانه الذي لا معقب لحكمه ولا يُسأل عما يفعل، فإن شاء عذب وإن شاء غفر، وإذا شاء سبحانه أن يغفر للعبد فمن يرده؟!، ولكن لا بد أن يكون موحداً يا عباد الله.
واعلموا أن فساد الدين لا يأتي إلا بالاعتقادات الباطلة، والتكلم به، أو العمل بخلاف الحق والصواب.
ومما أفسد عقائد الناس وحرفهم عن السبيل الصحيح، تلك القبور المشيدة التي تعبد من دون الله وتُدعى من دون الله، سواء في السعي إليها أو تعلق القلوب بها.
ولذلك فقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من كل فعل يكون على هذه القبور، فيكون بعد ذلك وسيلة لعبادتها من دون الله، كالبناءِ عليها وتعظيمِها والغلوِّ في أصحابها، فإن هذا كله يفضي إلى الشرك بالله سبحانه، ولذلك لما ذكرت أم سلمة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها في أرض الحبشة، وما فيها من الصور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح ـ أو العبد الصالح ـ فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة"، والمقصود بجعل القبور مسجداً، جعلها موضعاً للعبادة.
والشرك بقبر الرجل الذي هو معروف، أشد داعياً إلى عبادته من الوثن الذي لا يُعرَف صاحبه، فالناس عادة إذا علموا أن هذا قبر فلان وهو رجل صالح معروف، قد يكون نبيا، أو صحابيا وهم برءاء من الشرك وأهله، فإن النفوس تسارع إلى الإشراك به من دون الله، ليس كالوثن أو الصور التي لا يُعرَف أصحابها، ولأجل كل هذا فقد اشتد تحذيره صلى الله عليه وسلم من اتخاذ القبور مساجد.