السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
يقول الله تعالى : (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر/ 20).
فلسفة حبّ الإنسان للمال
كيف ينظر الإسلام إلى المال؟ يُقيّمه إيجاباً وسلباً؟
أوّلاً: إنّ القرآن الكريم يُعبِّر عن شيء مرتكز ومنغرس في نفس نوع الإنسان وهو حبّه للمال حبّاً كبيراً، يقول تعالى:
(وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا).
(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات/ 8).
خلفية حبّ الإنسان للمال هي أنّ الإنسان يُحبّ وجوده، ويُحبّ كل شيء يقوّي وجوده، ويدفع النقص والخطر عنه. ولا شكّ أنّ المال من مقوّيات الوجود ومن المساعدات على رفع النقص والدفاع والذبّ عنه، فإذاً سيتفرّع حبّ المال على حبّ الذات ويكون قوياً ومنسجماً مع درجة حبّها، وبما أنّ حبّ الذات من أعظم الغرائز لدى بني البشر فحبّ المال المتفرّع عنها طبيعيٌّ أن يكون من أقوى ما يُحبّه الإنسان (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا).
إذاً، هذا الحبّ عميق ونحن مأمورون أن لا نجري على مقتضى هوانا في التعامل مع المال، بل أن نُخضع علاقتنا به لحكم الشرع والعقل من خلال تعديد ذلك الميل الجنوني والعشق الكبير له، فالضابط والميزان للوصول إلى هذا الاعتدال هو الشرع المبين المدعوم بحكم العقل والعقلاء، فتعال لنرى نظرة القرآن والسنّة إلى المال وبماذا يأمران.
إنّ الإسلام يعتبر المال أمراً مهمّاً مصلحاً لشؤون الخلق ، وتحصيله والكدّ في سبيل كسبه من الحلال هو من أفضل العبادة، فكما ورد عن النبي (صل الله عليه وسلم): "العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال".
ولكن ككلّ وسيلة إذا تحوّلت إلى غاية فإنّها ستنحرف عن الصواب وقد توصل إلى الهلاك، فإنّ المال يجب أن يبقى في إطار الوسيلة، وإذا ما اعتقد الإنسان بأنّه غاية وتعامل معه كذلك فإنّه يكون من أخطر الأشياء عليه.
وللأسف الكثير من البشر وقعوا في فخّ المال وتحوّل حبّهم له إلى غاية، مع طول الأمل وحبّ الحياة وما يترتّب على ذلك من خوف الفقر والحاجة، وتقدير التعرّض المستقبلي للنقص والفقدان .
وبالتالي فإنّ الإنسان يلجأ إلى الكنز والادّخار وحجب المال عن المستحقّين.
كيف ينظر الدِّين للمال وكيف يُقيّمه؟
هو خواتيم الله في أرضه جعله الله مصلحة لخلقه وبه تستقيم شؤونهم ومطالبهم، فمن أكثر له منه فقام بحقّ الله فيه وأدّى زكاته فذاك الذي طابت وخلصت له، ومن أكثر له منه فبخل به ولم يؤدِّ حقّ الله فيه واتّخذ منه الآنية فذاك الذي حقّ عليه وعيد الله عزّ وجلّ في كتابه، يقول الله تعالى: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة/ 35).
لابدّ من النظرة الإيجابية للمال لا بالنظرة السلبية ، أي من الخطأ الاعتقاد بأنّ المال بما هو مال سيئ وشرّ، وبالتالي من القبيح أن نحوزه ونُحصّله. فالمال ليس ملكاً حقيقياً للإنسان وإنّما هو عارية ووديعة وملك اعتباريّ، فلو دقّقنا في النصوص نجد التصريح بذلك، يقول تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) (الأنعام/ 94). فلم تقل الآية تركتم ما "ملّكناكم"، بل عبّرت بـ"خوّلناكم"، ومعلوم أنّ تخويل الشيء أعمّ من تمليكه، فقد أخوّلك التصرّف بشيء لي دون أن أملِّكك إيّاه.
فلابدّ للعاقل أن يعتقد بذلك، أي بأنّه مخوّل بالتصرُّف بهذا المال وممتحن به، وأنّه مسؤول عنه مكسباً وإنفاقاً، فعن رسول الله (صل الله عليه وسلم): "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه".
وكذلك إذا اعتقد أنّ مالكه الله تعالى وأنّه مجرّد عبد ممتحن به، فإنّه سوف لا يمنع حقّ الله تعالى فيه، بل يبذله بطيب نفس، فهل يبخل الإنسان بملك غيره؟
إذا كان المال هو مال الله وهو وديعة عند الخلق لا غير مخوّل بالتصرُّف فيه فلابدّ أن نسأل ماذا يُريد الله تعالى منّا بشأن هذه الوديعة وهذا الشيء الذي امتحننا فيه؟ هل يُريد منّا التباري بجمعه فمن يجمع أكثر فهو الفائز وله الغلبة عنده "تعالى" وبالتالي له التفاخر على غيره بفوزه المظفّر عليهم لأنّه فاقهم في الكنز والادّخار منه؟!
الجواب: كلا، بل كلّفنا عزّ وجلّ أن نوجّهه حيث وجّهه ولا نكنزه.
فالمال إذاً ليس للكنز ولا للادّخار، بل جعله الله خواتيم في أرضه ليُصلح الناس به أمورهم، ويُديروا شؤونهم، ويتوصّلوا به إلى مقاصدهم، ليتوجّهوا بعد سدّ حوائجهم إلى الدوافع الأساس السامية، فمن يتوقّف عند جمع المال وكنزه ومن ثمّ يطلب به الكمالات الدنيوية فإنّه من التائهين في الضلال ومن الهالكين إن كان قد بخل بحقّ الله تعالى، أو أسرف في إنفاقه.
وإن كان قد أدّى حقّ الله تعالى فليس عليه جناح من الناحية الفقهية، ولكن من الناحية السلوكية فقد يُقال إنّ من يجمع ويكنز فهو من المنشغلين بالدنيا ومن الغافلين، وإنّه ما اجتمع مال إلا من شحٍّ أو حرام .
حبّ المال أداة مهلكة
وبعد التعريف بالنظرة الشرعية للمال، وبأنها نظرة واقعية إيجابية "مع الالتزام بالحدود الشرعية للجمع والإنفاق كمّاً وكيفاً" وليست سلبية، فلابدّ أن نذكر الأمور التي تجعل حبّ المال أداة مهلكة بيد صاحبها إذا لم يُضبط ما يُريده الشرع المبين والعقل الرصين:
فأوّلاً: من لوازم ذاك العشق للمال؛ الشُّحّ:
(وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ) (النساء/ 128).
(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا) (الإسراء/ 100).
ثانياً: حبّ الاستزادة والطمع والحرص الشديد على الكنز والادّخار:
- عن رسول الله (صل الله عليه وسلم): "لو أنّ لابن آدم واديين من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً".
ثالثاً: الطغيان: (إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 6-7).
من الخطأ أن يأمن الإنسان جانب نفسه، فإنّها كثيراً ما تخدعه، وتعده بأشياء ولا تفي عند التمكّن "وخدعتني الدنيا بغرورها، ونفسي بخيانتها"، وخاصّة فيما يتعلّق بالمال، فإنّه قبل حصوله في يد الإنسان قد يتكلّم كلام الزاهد في تملّكه والحرص عليه، الذي لا يعتني بشأنه، ولا يقيم له وزناً، إلا أن يقضي به حوائجه وحوائج الناس من أقاربه وإخوانه المؤمنين. إلا أنّه بمجرّد أن يحصل على قدرٍ منه فقد يتغيّر نمط تفكيره، بل حتى قد يتغيّر لحن كلامه، فهذا ثعلبة بن حاطب الذي عاهد الله لئن آتاه الله من فضله ليصدّقن وليكونن من الصالحين، فأيّ عهد هذا الذي قطعه على نفسه وجهاً لوجه مع رسول الله (صل الله عليه وسلم)، والذي أكّده بعدّة تأكيدات! إنّه لو وُزن مع جبال الدنيا لرجح عليها من ثقله! ومع ذلك لمّا آتاه الله من فضله بخل وتولّى وهو معرض، فأعقبه ذلك البخل والخلاف للعهد والكذب نفاقاً في قلبه إلى يوم يلقى الله سبحانه، بل على ما في النقل لقد كان تعبيره "ما هذا إلا اخلت الجزية" فقال النبي (صل الله عليه وسلم): "يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة".
وهذه الآيات المباركات التي روي أنها نزلت فيه وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (التوبة/ 75-77).
فعجباً لهذا الإنسان الذي يلهج بالكرم وحبّ البذل، وبأنّه إذا حاز مالاً سوف لا يردّ سائلاً، ولا يدعّ محتاجاً، ولا فقيراً إلا وينيله من كرمه وفضله وبذله، ولكنّه بمجرّد أن يحوز المال، ويتمكّن منه، يصبح شخصاً آخر، همّه تبرير حرصه وبخله، وليت الأمر يقتصر على هذا الحدّ، فإنّه يطغى ويتجاوز الحدود وينتهك الحرمات بالمال، الذي هو مادة الشهوات، ويظهر عليه البطر والترف والبذخ، وينسى أنّ هذا المال هو مال الله قد جعله وديعة عنده ليختبره به، ويتبجّح بحذاقته وذكائه في جمعه، وينسى من أنعم به عليه، ورزقه إيّاه، وأفضل مثال على هذا الصنف من البشر قارون.
وأخيراً فإنّ التخلُّص من هذه الآثار السلبية لحبّ المال بحاجة إلى تدريب وتهيئة لهذه النفس يؤدي إلى تزكيتها وذلك باستشعار رقابة الله تعالى، واستذكار نعمه وأنّه في أيّة لحظة قادر على سلبها واسترجاعها فهي فضلٌ من الله تعالى ومتى شاء استعاده، بل هي امتحان واختبار يسقط فيه كثيرون، وعليه نسأل الله أن لا يفتنّا بالدنيا وما حوت وأن لا يمتحننا بما لا نقدر على النجاة منه، إنّه سميع مجيب.