بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد فجعنا وفجع المسلمون في العالم برحيل الشيخ العلامة/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى رحمة واسعة، أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله من آل باز، المولود في الرياض في الثاني عشر من ذي الحجة في عام [1330هـ] الذي أصابه المرض مبكراً في عينيه، فنتج عن ذلك أنه أصيب بالعمى في سن التاسعة عشرة :
عزاء بني الإسلام قد عظم الأمر وليس لنا إلا التجلد والصبر
فشيخ المعالي غاب عنا مسافراً إلى ربه إذ ضمه اللحد والقبر
لقد كان بدراً ضاء في الكون نوره ألا إنه على أنه الشيخ المبجل والحبر
فسمعته في الناس فهي فريدة وسيرته بيضاء ما مسها غدر
وإن هو أعمى العين فالقلب مبصر يساعده في علمه العقل والفكر
فهاهي تنعاه الجزيرة كلها لقد مسها من فقده الحزن والضر
إني لأحسبه والله حسيبه ممن انطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، رزقه الله بصيرة ونوراً في قلبه، وفراسة يميز الصادق من الكاذب، واختيار الناس للمهمات، كان قوياً في أمر الله على ما يستطيع ويقدر.
من خصال ابن باز: رده على أهل الباطل والبدع
هو الذي رد على أهل الباطل باطلهم، ولما قال عظيم من عظماء الدنيا: إن القرآن فيه خرافات كقصة أصحاب الكهف، وعصا موسى! كتب الشيخ مبيناً أن ذلك ردة وكفر، ولما كتب إليه نائب لذلك القائل أن القائل لا يقصد، وأنه متراجع عن قوله، كتب له الشيخ آمراً: إن كان صادقاً فليعلن توبته على الملأ كما أعلن كفره على الملأ. هو الشيخ الذي رد على أهل الباطل باطلهم، وعلى أهل البدع بدعهم، فهذه كتبه ورسائله حافلة بالرد عليهم.. بين لما أمر الله أهل العلم أن يبينوا، رحمة الله تعالى عليه، وهذه مقالاته في التحذير من البدع كالاحتفالات غير الشرعية البدعية من المولد، وذكرى الإسراء، وليلة النصف من شعبان، وغيرها قائمة عندما يرى المنكرات أمامه يتكلم، وعندما يرى انتشار ألوان الفحش والفساد من الأفلام والأغاني يتكلم عن ذلك، وعندما يرى منكر سفر الناس إلى بلاد الكفار يتكلم عن ذلك، وعندما يرى فشو المنكرات يتكلم عن ذلك، وهذه رسائله في المحرمات المنتشرة، وفي البدع الكثيرة، مع أخذه -رحمه الله- بالحكمة والموعظة الحسنة. نحن لا نبرئه فهو بشر، ولا نرفعه إلى رتبة الأنبياء فليس بمعصوم، الحق ما وافق الكتاب والسنة: كان إماماً بحق لـأهل السنة والجماعة في عصره، ومجدداً للدين، فكم أحيا الله به من سنة، وأمات من بدعة، وأيقظ من غفلة، وهدى من ضلالة! فهو إمام -إن شاء الله- داخل في قوله تعالى: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74]. كان ساعياً في إزالة المنكرات، وخطاباته الكثيرة لم يطلع عليها الناس؛ لأنه كان يخاطب صاحب المنكر أو صاحب الشأن ولا يريد الفضيحة والتشهير، ويسير على الحكمة في ذلك مع ما في فعله -رحمه الله تعالى- من الاجتهاد، فاجتهد وتصدى للنوازل الكبار والمسائل الصعبة الشائكة التي وجدت في هذا العصر، والمتعلقة بأنواع المكتشفات والمخترعات، بما رزقه الله من العلم والفهم والبصيرة، فترأس مجمع الفقه الإسلامي الذي أصدر عدداً من الفتاوى في النوازل الفقهية المعاصرة التي يحار فيها العلماء ويضطربون.
من خصال ابن باز: جمعة بين الفقه والحديث
كان مجدداً جامعاً بين الفقه والحديث، يعرف الحديث وصحته، ويحفظ من أحاديث دواوين السنة الكثير، يعرف الرجال وضبط الأسماء، وتصحح النسخ والطبعات بين يديه مع كونه ضريراً، كان بحراً في معرفة أقوال العلماء لا يخرج عنها، ولا تكاد تجد له فتوى شاذة، فظهر -رحمه الله- عدلاً وسطاً بين طرفين، مال أحدهما إلى الحديث ولم يشتغل بالفقه كما ينبغي، ومال الآخر إلى الفقه وأقوال الفقهاء ولم يهتم بالحديث كما ينبغي، فكان جامعاً بين الفقه والحديث. من أعظم ميزات منهج الشيخ: الجمع بين الفقه والحديث، هو الرئيس المسكت الذي تجتمع على قوله الآراء، وربما اختلف العلماء بين يديه في النقاشات في لجنة الفتوى، أو في مجلس هيئة كبار العلماء، فإذا قال قولاً فصل بينهم وأذعنوا له، ورضخوا لرأيه، وجعلوا لقوله صوتين في لجنة الفتوى مقابل صوت واحد لكل عضو من أعضاء اللجنة، هاتوا واحداً سيجتمع عليه العلماء بعد رحيل الشيخ فتكون له الكلمة المطاعة على الجميع، ويكون له النفوذ في كثير من أقطار الأرض من الجهة العلمية، ومن الإذعان للفتوى..!
من خصال ابن باز: التواضع والأمانة
كان ينزل إلى مستوى العامة لتفهيمهم، ولم يكن يخاطبهم من علو، بل كان كثيراً ما يجيب باللهجة العامية الدارجة، ليفهموا عنه، كان متواضعاً لله عز وجل، قلما كان يعلق في دروسه مكتفياً بكلام أصحاب الكتب، كأن الدرس له ولمراجعته ومذاكرته وفائدته، وتعليقاته على فتح الباري اليسيرة يعلق على ما لا بد منه، كان يذكر مشايخه ويترحم عليهم. ومن تواضعه: أنه كان يقوم إلى العجائز والضعفة الواقفات ببابه لقضاء حوائجهن من مال أو سؤال أو قضية طلاق.. وغيرها، وأوقف مرة نقاشاً مع علماء كبار ليجيب امرأة بالهاتف، فلما عاتبه بعضهم قال: هذه صاحبة حاجة. ومن تواضعه: جلوسه على الأرض للطعام، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد. وبساطة لباسه: يلبس ثوباً فضفاضاً لا رقبة له، ولا يتعدى أنصاف ساقيه، وبشته ليس نفيساً غالي الثمن، ولباسه وحذاؤه وعصاه تدل على زهده في الدنيا، ينفق مرتبه وربما يستدين لقضاء حوائج المسلمين. كان في غاية الديانة والأمانة، يُستأمن على الملايين من صدقات المسلمين وزكواتهم، فيجتهد في إنفاقها في وجوهها.
اهتمام ابن باز بطلابه وبمن حوله من الناس
كان يهتم بطلابه، ولما درس في الخرج جعل لهم سكناً، وطلب لهم سكناً إضافياً لما ضاق، ومكافآت، وعقد لهم الدروس والحلق بعد الفجر وبعد الظهر وبعد العصر وبعد المغرب وبعد العشاء، كان يذكر عنه بعض طلابه الذين يقرءون عليه تفسير ابن كثير بين العشائين أنه كان كثيراً ما يتأثر ويبكي، وربما يطول الدرس بسبب تأثره دون أن ينتبه، فإذا انتبه أنهى الدرس وأقيمت صلاة العشاء. وكان يناقش طلابه وخصوصاً في درس المواريث، ويتفقد أحوالهم، ويقضي حاجاتهم، ويخرج معهم إلى البر، ولا ينسى إقامة الرياضات البدنية لهم، كرياضة العدو والمسابقة على الأقدام التي وردت بها السنة، كما جاء في حديث عائشة وسلمة بن الأكوع. كان مشاركاً للناس والأهالي، ولما دهمت السيول بلدة الدلم في سنة (1360هـ) خرج يشجع الأهالي على إقامة السدود، وأخرج من بيته التمر والقهوة إلى مواقع العمل لخدمة الناس، ولما هاجمت أسراب الجراد البلد خرج الشيخ معهم لقتله بالجريد، وكان حريصاً على الأوقاف، وإدارتها، وإقامة المدارس. ولما عين في إدارة الجامعة الإسلامية بـالمدينة النبوية في عام (1381هـ) وما بعدها كان يتفقد الفصول والطلاب، ويعتني بالوافدين من البلدان الأخرى، وقضاء حوائجهم، وتوفير الكتب لهم، والاهتمام بتعليمهم اللغة العربية. ولما عين رئيساً لإدارات البحوث العلمية والإفتاء عام (1395هـ) وغادر المدينة النبوية إلى الرياض للمنصب الجديد حصلت مشاهد من التأثر لدى أصحابه وطلابه، وألقى كلمة اختلط فيها الكلام بالبكاء والنشيج من الجميع حتى قال أحد الحاضرين في نفسه:
بكينا وفاءً لامرئ قل أن يرى له في الدعاة العاملين نظير
فخلوا ملامي إن ألح بي البكا فإن فراق الصالحين عسير