[glow=red]رثاء رجل حي ( قصة قصيرة )[/glow]
[j]
كيف أفعل ذلك، أأقتل رجولتي وأنعى مروءتي؟ أي حضارة منحدرة تريدها "نجوى" لي؟ أوهكذا تكون الزوجة الطيبة؟
استمر السيد "رامي" في قيادة سيارته بتوتر ظاهر، كاد يودي بحياته وحياة زوجته، إذ ربما لم يشعر بقيمة لحياته، أو معنى لها، وهو يحدِّث نفسه عن الموضوع، المشكلة، التي تصطنعها "نجوى".
كانت "نجوى" شاردة النظرات، يبدو أن القلق احتل قسمات وجهها، واستعمر الاضطراب أطرافها، إلا أنها لملمت بضع كلمات فقالت: أعلم أن صعود الجبال لا يستطيعه الشعراء، بل يستطيعه الأبطال، فرد عليها: "وأنا أعرف يا "نجوى" أن أكثر الناس تنعمًا في رياض الإنسانية هم شعراء الرجال، أردف: وأعدُك بأن...".
تهللت أسارير "نجوى"، فقد اعتقدت أن هذه العبارة الناقصة شارة نصرها الأول، لكنها سمعته يكمل عبارته: أعدك أن استمع إليك عندما نصل إلى مرفأ الحضارة العصرية، ونتأمل الشاطئ معًا... تململت "نجوى" وقد بدا عليها الضيق، لكنه أوضح لها أنه يريد أن يقود سيارته عبر المنعطفات بهدء وأمان...وضعت "نجوى" لسانها في سجنه وأخذت تزفر آهات عميقة متباعدة... أشلاء أعماقها ممزقة، تقول لنفسها أحيانًا: لِمَ كل هذه المعاناة؟! يمكنني التعايش مع وضعي الجديد.
وتتلمس ماضيها برضا وقناعة، ثم تنكر فكرتها الأولى، فتحدث نفسها: لا لقد مللت، أريد أن أنعم بالدنيا وجمالها وبهائها، تلك المرأة حالت بيني وبين أسباب السعادة لا أريدها في بيتنا.
أما السيد "رامي" فقد بدا وكأنه في بحر متلاطم يلملم أشرعته المتكسرة، ويحاول الهرب من غرق قاتل، بدا مضطرب الجنان، يشده المد، وينتزعه الجذر، تيارات أفكاره أعنف من هدير موج البحر الذي يسمع... كم هي مؤلفة صفحات اقتراحات يا "نجوى".
حركت "نجوى" رأسها بدلال، وأجابت: أعدك بأنني سأحملك إلى فردوس الأرض سنشعر معًا بدفء الحياة، وعذوبتها، وروعتها، ألا تتمنى يا زوجي العزيز أن تغادر الدموع عيني؟ ألا تحب أن ترى السعادة ترفرف على بيتك محتضة صغارك وأمهم؟
فأجاب بفتور: أحب ذلك وأكثر، دعينا نستريح هنا قليلاً، وننعم بتأمل ساعة الغروب الرائعة هذه. علَّقت بانفعال: أصبحت رائعًا، بدأت تستروح الجمال إذن.
وجلسا صامتين، وقد صرف كل منهما نظره نحو صفحة البحر هاربًا من قراءة صفحة وجه صاحبه، وبدا الزوجان متشاغلين بتأمل وجه ما.
ظهرت أمامهما عجوز وحيدة مفترشة بساطًا باليًا وبيدها كأس ماء ترتشف منه بين الحين والآخر، شد حال هذه العجوز قلب الزوجين الشابين، وأخذا يفكران بها وكأن أمرها معضلة رياضية بسطت أمام طالب متفوق.
تدافعت الأسئلة من فيهما: تُرى أين فروعها؟ لابد وأنها تنتظر حبيبًا غائبًا.
كأس الماء يرتجف بين أصابعها من أي فصيلة ذاك الإنسان الذي جحد أصله وتنكر للذي عاش عمرًا يسدي إليه المعروف تلو المعروف.
أشعر أنك ستكتب قصيدة، بل قصائد تصف بها العجائز، فأجاب: أجل وسأصف مرفأ الحضارة أيضًا، لكن "نجوى" تخيلت نفسها تخاطب العجوز فتقول: أظن أن الذين مددتهم برياحين سبابيك قذفوك بعيدًا خشية أن تلوثهم أوراقك المتساقطة، أعذريهم أنه مساكين، لا يعلمون أن أوراق الخريف المتساقطة تغذي الجذور الدقيقة مسكينة أنت أيتها العجوز الوحيدة الفريدة، ومسكينة أنا، أنا التي أحلم باليوم الذي أُلقي فيه بوالدة "رامي" خارج بيتنا لأنعم بحياة سعيدة هادئة بالضبط كما ينعم أحباؤك أيتها العجوز، ما لنفسي أصبحت تخلط بين الرغبة في عيش النعيم والمشي نحو عيش الأنعام.
ربما تسربلت "نجوى" بالصغار والخزي من نفسها، واستولت عليها مشاعر الرثاء والشفقة لعجز الإنسان عن احتضان عجوز، اقتربت "نجوى" و"رامي" من العجوز المضطربة فهللت لهما ظانةً أنهما بعض أقاربها، لكنهما بادراها بالتحية وطرح الأسئلة:
أتنتظرين أحدًا يا خالة؟ نعم إني انتظر عودة ولدي الحبيب فقد جاء بي إلى هنا وقال سأغيب عنك قليلاً، ثم أعود إليك، لا تقلقي، وأردفت: أسأل الله أن يسلمه من كل مكروه وأن يحفظه ويبارك له ثم أخرجت ورقة من جيبها، وقالت بصوت ضعيف متحشرج: خذ يا ولدي، اقرأ هذ الورقة التي سلمها لي ولدي "أحمد" وهو يقول لا تقلقي يا أمي إن تأخرت عليك فقط سلمي هذه الورقة لمن يسأل عني، وسلمت الورقة للسيد "رامي" وفي عينيها المتعبتين آمال وأحلام غمرت الورقة التي فتحها السيد "رامي" فتراقصت الأحرف أمام عينيه المتدفقة، وكسا الذهول والأسى كيانه كله، وهو يقرأ: الرجاء ممن وجد هذه العجوز تسليمها لدار المسنين.
احتفظ السيد "رامي" بالورقة، وبعد أيام كتب على ظهرها قصيدة بعنوان (رثاء رجل حي).
[/j]