صيام القلبد. عائض القرني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد.
يقول الله تبارك وتعالى: «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» (التغابن: من الآية 11). وهداية القلب أساس كل هداية، ومبدأ كل توفيق، وأصل كل عُمُر، ورأس كل فعل.
صحَّ عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: «ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
فصلاح قلبك سعادتك في الدنيا والآخرة، وفساده هلاكٌ محققٌ لا يعلم مداه إلا الله عز وجل. يقول الله ـ عز وجل ـ: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» (قّ:37).
ولكل مخلوق قلب، ولكن القلوب قلبان: قلب حيّ نابضٌ بالنور، مشرقٌ بالإيمان، ممتلئٌ باليقين، عامرٌ بالتقوى، وقلبٌ ميتٌ مندثرٌ سقيمٌ، فيه كل خرابٍ ودمار.
يقول ـ سبحانه وتعالى ـ عن قلوب المعرضين اللاهين: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» (البقرة: من الآية 10)، وقال تعالى: «وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ» (البقرة: 88)، وقال سبحانه: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» (محمد: 24). وقال عنهم: «وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ» (فصلت: من الآية 5). فالقلوب تمرض ويُطبَع عليها، وتقفل وتموت.
إن قلوب أعداء الله ـ عز وجل ـ معهم في صدورهم، ولكنها قلوبٌ لا يفقهون بها. لذلك كان يقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما صح عنه: «يا مقلِّب القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك».
قلب المؤمن يصوم في رمضان وغيره، وصيام القلب يكون بتفريغه من المادة الفاسدة من شِِركيّات مهلِكة، ومن اعتقاد باطل، ومن وساوسَ سيّئة، ومن نوايا خبيثة، ومن خطرات موحشة.
قلب المؤمن عامرٌ بحبّ الله، يعرف ربه بأسمائه وصفاته، كما وصف الله ـ سبحانه وتعالى ـ نفسه، فهذا القلب يطالع بعين البصيرة سطورَ الأسماء والصفات، وصفحات صنع الله في الكائنات، ودفاتر إبداع الله في المخلوقات.
* وكتاب الفضاء أقرأ فيه - صوراً ما قرأتها في كتابي.
قلب المؤمن فيه نور وهّاج لا تبقى معه ظلمة؛ نور الرسالة الخالدة، والتعاليم السماوية، والتشريع الرباني، يُضاف هذا إلى نور الفطرة التي فطر الله عليها العبد، فيجتمع نوران عظيمان «نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (النور: من الآية 35). قلب المؤمن يزهر كالمصباح، ويضيء كالشمس، ويلمع كالفجر. يزداد قلب المؤمن من سماع الآيات إيماناً، ومن التفكر فيها يقيناً، ومن الاعتبار بها هداية.
قلب المؤمن يصوم عن الكِبر؛ لأنه يفطر القلب، فلا يسكن الكبر قلبَ المؤمن؛ لأنه الحرام، والكبر خيمته ورواقه، ومنزله في القلب، فإذا سكن الكبر في القلب أصبح صاحب هذا القلب مريضاً سفيهاً، وسقيماً أحمق، ومعتوهاً لعّاباً.
يقول ـ سبحانه ـ كما في صحيح الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني فيهما عذبته». وعنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: «من تكبَّر على الله وضعه، ومن تواضع لله رفعه».
وقلب المؤمن يصوم عن العُجب، والعُجب تصوُّر الإنسان كمالَ نفسه، وأنه أفضل من غيره، وأن عنده من المحاسن ما ليس عند الآخرين، وهذا هو الهلاك بعينه. صح عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال: «ثلاث مهلكات: إعجاب المرء بنفسه، وشحٌّ مُطاع، وهوىً متَّبَع». ودواء هذا العجب النظر إلى عيب النفس، وكثرة التقصير. وآلاف السيئات والخطايا التي فعلها العبد، واقترفها ثم نسيَّها، وعلمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى. وقلب المؤمن يصوم عن الحسد؛ لأن الحسد يحبط الأعمال الصالحة، ويطفئ نور القلب، ويعطّل سيره إلى الله تعالى.
يقول سبحانه: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» (النساء: من الآية 54). ويقول ـ صلى الله عليه وسلم: «لا تَحاسدوا، ولا تَباغضوا، ولا تَدابروا، ولا تَناجشوا، ولا يَبِعْ بعضُكم على بَيْع بعض». (حديث صحيح).
أخبر ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثلاثَ مراتٍ عن رجل من أصحابه أنه من أهل الجنة، فلما سئل ذاك الرجل: بم تدخل الجنة؟ قال: لا أنام وفي قلبي حسدٌ أو حقدٌ أو غشٌّ على مسلم. فهل من قلب يصوم صيام العارفين؟
* صيام العارفين له حنين - إلى الرحمن ربّ العالمينا.
* تصوم قلوبهم في كلّ وقت - وبالأسحار همْ يستغفرونا. اللهم اهدِ قلوبنا إلى صراطك المستقيم، وثبّتها على الإيمان يا ربّ العالمين.