بسم الله الرحمن الرحيم
تجف بعض القلوب وتنشف .. ثم تصبح أصلب من الحديد .. فتعاند وتحاجج بغير منطق أو تفكير .. وقد يصل الحال ببعضها أن تطلب المستحيل .. وأن تحاول وتقف معترضة لقدر من الأقدار !! ثم تصر وتلح على نيل ما لم يكن مكتوب .. وهذه قصة تمثل ذلك النوع من القلوب .. فقد عاش الشاب حياته الزوجية بسعادة وهناء .. وضحكت له الدنيا لحظة من تلك اللحظات النادرة .. فيتمنى كما يشاء ويرسم ويخطط ويطلب القاصي والداني .. ثم وضع مخططاً لحياة ليست كلها في يد الإنسان !! .. وجمح به الخيال فقدم وأخر .. ثم رسم مستقبلاً كما يتمنى ودون أن يترك للأقدار فرصة .. وهو من أولوياته ومخططاته أن يكون للذكور من ذريته القادمة حظ البواكير وللإناث فرصة قد تتاح فيما بعد .. تلك هي كانت مخططاته .. وكأنه يملك ذلك الأمر !! .. ولكن للأقدار قول غير ذلك .. وقولها لا يتبدل ومرسوم في الأزل .. وعند تباشير أول القادمين من إنجابه للحظات فرح ورقص ثم سأل النوع وعندما قيل له أن باكورة الإنجاب بنت وليست ولد .. تغير وجهه وتلون وتبدلت ملامح الرسم في جبينه وكأنه قد أصيب بداء عضال .. وفقد للحظة شهية الحياة .. فغضب وسخط ودخل وخرج ولام غيره بغير لوم ولا ذنب .. ثم مرت به الأيام ثم التقاء بولادة أخرى وكذلك جاء الأمر عكس مخططاته .. وهكذا توالت الولادات بنت إثر أخرى .. ولما بلغ به الحال بعدد من الأمورات .. قرر وبعناد شديد فيه الكثير من الجفاء والخطأ أن يغترب في بلاد بعيدة خارج بلده .. وكانت أم البنات تحت حمل جديد فأقسم لها بأنه لن يعود إليهم مرة أخرى إذا لم يكن المولود ذكراً !! .. واغترب وسافر .. ثم مكث ينتظر الحدث كما يتمنى .. ولكن يصر القدر مرة أخرى أن يقول قولته .. فتبشره الأنباء والإفادات بأن الحال ( أيضاً كذلك ) .. والجديد مثل القديم .. والحال مثل الأول .. فأرسل لهم قائلاً سموها كما تريدون .. وأبعدوني من رباكم .. وسوف يطول اغترابي .. وقد لا أعود !! .. فتمر السنوات عجافاً .. أما هو حتى لم يشغل نفسه عن السؤال عن اسم المولودة .. ويعيش تحت وعد عقيم وبلد لا يدوم الحال فيه .. وبعد مرور تسعة سنوات تجبره الظروف أن يعود لأهل قد جفاهم بغير ذنب .. ولديار كانت دوماً تحضن أبناءها بحنان وعطف .. فأعد العدة للعودة قسراً وليس طوعاً .. وهو يحس في أعماق نفسه بأنه عائد تحت جبروت الظروف .. ومن المطار توجه لداره ولأهله .. ودون أن يخطر أحداً بقدومه .. يقول : نزلت من سيارة الأجرة التي وقفت أمام المنزل .. ثم تقدمت بخطوات بطيئة .. وطرقت باب داري باستحياء .. ثم وقفت برهة انتظر فتح بابي .. وفتح الباب ثم وقفت أمامي زهرة حلوة جميلة في غاية الجمال والروعة .. فنظرت إليها بتعجب وتأمل .. ثم هي نظرت إلى بتعجب وبنظرة ملائكية فيها كل الحلاوة .. ونقاء السريرة .. وبراءة التأمل .. ثم هممت أن أقول لها شيئاً ولكنها لم تمهلني بل قالت بمنتهى الطهارة والبراءة أنت ( بابا ) .. أعزب كلمة وأجمل لحن يسمعها أذني في حياتي .. ثم فجأة رمت بجسدها الغض في أحضاني فأضممتها بشدة وحنان .. ودمعة تجري ساخنة في خدي .. وأقول في نفسي : يا الله ما ذنب هذه البريئة ؟؟ !! .. عوقبت قبل أن تعرف معنى العقاب .. وظلمت وهي في حاجة إلى حنان الأحباب .. وظالمها هو أقرب الناس مودة ولكن بغير حجة وأسباب .. وهي لا تملك أمرها في الرحم بل الحكم لرب الأرباب .
................. ويضيف قائلاَ : وأنا في إرباك ودهشة أقول لها ما اسمك !! ؟؟ .. فتـرد ببراءة طفولية نقيـة : هل يعقل يا أبي أنت لا تعرف اسمي ؟؟ ثم فجأة تنادي بصوتها الجميل وتعلن النبأ .. فيركض باقي جمانات العقد لتحضنه في شوق وحنان .. ويجد نفسه محاطاَ في بيت يجمع الحنان والشوق والعطف والرقة .. أنفس بريئة لا تعرف إلا الفرحة والانشراح بقدوم عائد بعد طول جفاء وغياب .. أهلكت الغيبة الطويلة أنفساَ صغيرة كم وكم اشتاقت لحنان أب مفقود في المجهول .. وكم وكم حلمت وعانقت تلك الأنفس أباها في الأحلام .. يتذكر ذلك كل مرة ثم يخفي ألمه ويأسف من ظلمه لأناس يحبونه رغم جفاءه وعناده وتدخله في شئون الأقدار .. وعندما يجد نفسه في خلوة يجد العتاب من قلبه وضميره فيبكي في الخفاء .. وتلك أحوال كل من يحاول الإمساك بالأقدار ليسيرها حسب الِأهـواء !!!!