رغم أن الخلاف في الرأي يكاد يكون أمرا حتميا بين الزوجين، فإن الخلافات الدائمة والمتكررة بين الأبوين تلقي بظلالها السلبية على أطفالهما، على المستوى النفسي والعاطفي وتعرضهم للكثير من المشكلات، التي قد تتعدى المشكلات النفسية وتتمثل في أعراض عضوية غير معلومة المصدر.
ونظرا لأهمية هذا الموضوع وشيوع حدوثه، فقد تم تناوله في الكثير من الدراسات والتي كان أحدثها دراسة تناولت آثار الخلافات العائلية بين الزوجين وقيام المخ بوظائفه بالشكل السليم، نشرت في مجله رابطة «علم النفس»journal of the Association for Psychological Science نهاية شهر مارس (آذار) الماضي.
* الخلافات ومخ الأطفال
* وقد أشارت الدراسة، التي قام بها باحثون من جامعة أوريغون University of Oregon بالولايات المتحدة، إلى أن المشكلات العائلية تؤثر بالسلب على مخ الطفل، وأن الرضيع يستجيب لنبرة الغضب في الصوت حتى وهو نائم، لأن مخ الرضع يتمتع بدرجه عالية من المرونة تسمح له بالتطور والنمو تبعا للتجارب والبيئة التي يعيش فيها، نظرا لأنه في مرحلة التكوين، لكن بطبيعة الحال لا يكون مخ الرضع بنفس قدرة الطفل أو البالغ.
وأوضح الباحثون أن الضغوط والتوترات الشديدة مثل سوء المعاملة أو عدم الاستقرار النفسي الناتج من البيئة المتوترة في المنزل من المشاحنات المستمرة بين الآباء يمكن أن يؤدي إلى عواقب شديدة السلبية والخطورة على نمو الطفل.
وكان الباحثون قد أعطوا اهتماما خاصا بزمن هذه الضغوط وفي أي وقت تبدأ واستغلوا التقنيات الطبية الحديثة في دراسة وظائف المخ عند الرضع عن طريق الاستخدام المتطور لأشعة الرنين المغناطيسي fmri scan، والتي يمكن من خلالها دراسة وظائف المخ.
وأجرين الدراسة على 20 طفلا تتراوح أعمارهم بين 6 شهور وسنة، بعد أن حضروا جميعا لمختبر الأبحاث في التوقيت المعتاد لنوم هؤلاء الأطفال، وبينما كان هؤلاء الأطفال نائمين كان هناك صوت رجل يردد جملة لا معنى لها في عدة نبرات للصوت تتراوح بين الغضب الشديد والغضب العادي ونبرة سعيدة، وأخيرا نبرة الصوت المعتاد، وكانت المفاجأة أنه حتى أثناء النوم أظهرت نموذجا معينا خاصا لوظائف المخ يتأثر بنبره العواطف الموجودة في الصوت.
وأظهرت أن الأطفال الذين انحدروا من عائلات تعاني من خلافات عائلية مستمرة أظهروا تفاعلا أكبر من غيرهم في المراكز المخية المتحكمة في تنظيم العواطف والمشاعر مثل منطقه ما تحت المهد hypothalamus عند سماعهم لنبرة الصوت الغاضبة جدا.
وتأتي أهمية هذه الدراسة في أن التجارب السابقة التي تم إجراؤها على الحيوانات أوضحت أن هذه المناطق المنظمة للعواطف في حالة النشاط عند تعرضها للضغوط النفسية في بداية الحياة أثرت على النمو الوظيفي للمخ، ويعتقد الباحثون أن هذا يمكن أن ينطبق على الإنسان أيضا.
وتبعا لهذه الدراسة فإن الطفل الرضيع ليس بغافل عن ما يحدث حوله ويتأثر بالعواطف المختلفة من حوله خاصة الخلافات وعدم التفاهم، والتي يمكن أن تؤثر سلبا على وظيفة المخ لاحقا.
* الخلافات ونوم الطفل
* وكانت دراسة أميركية سابقه قام بها باحثون من جامعه أوبورن Auburn University وجامعة بروان Brown University قد حذرت من الخلافات الزوجية وأثرها على صحتهم النفسية، وقام الباحثون من مراكز أبحاث النوم بدراسة 54 طفلا تتراوح أعمارهم بين 8 و9 سنوات، وقاموا بعمل مقابلات مع الأطفال وأسرهم، وسؤال الأطفال عن حياتهم في الأسرة فضلا عن ارتداء الأطفال لجهاز يشبه الساعة Actigraph يقيس نماذج النوم عن طريق رصد الحركات.
وكانت المفاجأة أن فريق البحث وجد أنه حتى الخلافات البسيطة بين الزوجين يمكن أن تؤثر على نوم الطفل. وأشارت الدكتورة منى الشيخ، من الفريق البحث بجامعة أوبورن، أن الخلافات الزوجية حتى المتوسطة منها تنتقص نحو 30 دقيقة من نوم الطفل أثناء الليل، رغم أن 30 دقيقة لا تعتبر فترة طويلة، لكنها في الأغلب تكون فترة النوم العميق، التي يحتاجها الطفل حتى يحتفظ بنشاطه وحيويته.
المشكلة الحقيقية في الخلافات الزوجية هي شعور الأطفال بعدم الأمان، حيث إن المنزل يمثل للأطفال المكان الذي يحصلون منه على الحماية، والخلافات الزوجية تشعر الأطفال بعدم الاستقرار والاضطراب، فضلا عن شعورهم بالذنب وتنامي الإحساس لديهم بأنهم سبب الخلافات بين الوالدين، حيث إن عقلية الطفل تعتقد أن العالم يتفاعل مع تصرفاتهم حتى ولو كانت خلافات الوالدين لا علاقة لها إطلاقا بالأطفال.
على سبيل المثال يعتقد الطفل أن خلاف الوالدين سببه أنه غير متفوق في الدراسة بالشكل الكافي أو بسبب مظهره خاصة إذا كان الطفل يعاني من البدانة أو تشوه خلقي بارز، وأيضا تواجه الطفل مشكلة أن الخلافات بين الوالدين تشعره بأنه يجب أن يأخذ جانب أحد الأبوين، وبالتالي يتعاطف مع طرف ضد الآخر وهو ما ينتج عنه تدمير للصحة النفسية للطفل.
ويتمثل عدم قدره الطفل أو المراهق على التكيف مع مشكلة وجود خلافات زوجية بين الوالدين في عده ظواهر سواء على المستوى النفسي أو حتى الجسدي، وفي مرحلة الطفولة في الأغلب ينعزل الطفل عن زملائه في الدراسة، ويتجنب الحديث عن أسرته فضلا عن تراجع الأداء الدراسي. وبالنسبة للمراهق في الأغلب يبدأ في التدخين أو تعاطي المواد المخدرة ويصبح عدوانيا وقد ينخرط في ممارسات غير قانونية نتيجة للبيئة العنيفة التي نشأ بها.
* أعراض جسدية
* وفضلا عن المشكلات النفسية، يوجد أيضا الأعراض الجسدية التي يمكن أن تتمثل في إحساس بالصداع المتكرر وفقدان للشهية وفقدان للوزن أو ألم في البطن والمعاناة من التبول اللاإرادي، ويمكن أن يحدث بعد أن يكون الطفل قد توقف تماما عن التبول ليلا، ويمكن أن تتفاقم الأعراض إلى حد الإحساس بالإغماء.
وبطبيعة الحال لا يتم التوصل إلى أصل المشكلة بسهولة، حيث إن الأعراض عامة، ولا يظن الأبوان أنهما مسؤولان عن آلام الطفل خاصة وأن الكشف الإكلينيكي في الأغلب لا يظهر أي اعتلال، ويجب على الآباء أن يحيطوا الطبيب علما بالبيئة النفسية التي يحيا فيها الطفل.
قد يظن بعض الآباء أن الخلافات الزوجية الدائمة وعدم التفاهم لا يؤثر على الطفل طالما لم يكن هناك عنف ملحوظ بين الأبوين سواء على المستوى الفعلي أو اللفظي، لكن الحقيقة أن مجرد عدم وجود التفاهم الكافي والألفة بين الزوجين يؤثر سلبا على الطفل، وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، فإن تكرار تلك الخلافات لا يجعل الطفل يتقبلها بسهولة ولا يعتاد عليها بل على النقيض تزيد من الضغوط النفسية عليه.
ويجب على الآباء العمل على حل الخلافات الموجودة بينهم وتقريب وجهات النظر وأن يفكروا في صحة أولادهم النفسية، ويستحسن أن يكون الجدال بين الزوجين بعيدا عن الأطفال.
دمتم بود