"على جانبي الطريق، قطرات المطر تمسح ضفائر الزيتون وامرأة تكتب عشقها"
حاصرَها الخريفُ بفجرٍ عاصفٍ بعد ليلةٍ ماطرةٍ، بدت لها لن تنتهي. أحسّت بضيقِ الفضاءات من حولها، غيمٌ داكنٌ يسدُّ منافذ الضّوء، امرأةٌ غالبها شوقُها لمن تحبُّ، راحتْ تكتبُ في الليالي الباردةِ.. رسائلَ بلا عناوينَ... حاولتْ استنهاض بقاياها التّعبة، داهمتها خيوطُ الفجرِ الفضيّةُ المتسلّلةُ عبر أواخر السّواد. وخزَ الصقيع أصابع قدميها... أسرعت إلى موقد الحطب، رتبت القطع الصغيرة على شكل هرمٍ... تأففتْ. أعوادُ الثقاب رطبةٌ... ها!! أخيراً اشتعل أحدها.. النّار أشعرتها بالدّفءِ، انعكسَ ضوء اللّهب على مرآتها القديمة.. بان شحوبُ وجهها... توضحت تجاعيدهُ المقلقةُ.
العاصفة تدور بدويها المخيف حول البيت الطّيني، حفيف الأغصان على جدار الغرفة، وتساقط الورق على الأرض المبللة... جعلها تعدُّ سنوات عمرها بمساعدة أوراق تقويمٍ قديمٍ.
وقفت أمام النّافذة المطلّة على وادٍ وسفوحٍ وأشجارٍ تتلوى تحت ضغط الرّيح. دروبٌ ضيقةٌ على جنباتها بيوتٌ حجريةٌ وطينيةٌ تهدّمت بعض جوانبها بفعل الرّيح والمطر، تغطيها أعشابٌ خضراء على امتداد السّطوح التّرابية، أزقةٌ تتعرج تصفرُ فيها الرّيح، مدَّتْ نظراتِها إلى الجهة المقابلة حيث الطّرقات الإسفلتية على بيوتٍ ذات شرفاتٍ عاليةٍ من قرميدٍ وحجارة كبيرةٍ بيضاء وأسوارٍ تحيط فيها حدائقُ جميلةٌ يعملُ فيها حراسٌ ملامحهم غريبةٌ
حاولت أن تهرب بأحلامها من الوحدة... خوفٌ وحيرةٌ افترشا داخلها، تخيلتْ أنها تقفُ على شاطئ رملي وحينَ أدركت أنّها وحيدةٌ أخذت تلوِّحُ للسّفن التي احتوت ناسها، تذكرتْ أنّها تحملُ رسائلها، أخرجتْها وراحت تلقيها على الموج راقبت انسيابها مع الماءِ المالح إلى المدى البعيد بعينين دامعتين..!!
"رسالة أولى"
هل تعطشُ لصوتي؟.. لقد ظمأَتْ إليك ولقفتكَ بدمعاتٍ فاضتْ أيها الغائبُ الحاضرُ في داخلي... لقد بحّ صوتي وأنا أناديك... أنادي لا أحد يسمعُ صوتي إلاّ صدى الوديانِ وأشجارٌ حفرَ الصبّا عليها حروفُ اسمينا... يبدو أنَّ الصدى سبقني إليكَ وسبقتكَ إليّ عواصفُ الخريفِ لتشلحني عاريةً كشجرةٍ... لا شيء يدفئُ صقيع أيامي، علبُ الدّواء الفارغةُ تكومت في زوايا غرفتي وحول سرير نومي، أتعبني هذا الانتظارُ المقيتُ وطوتني السّنوات الموجعة ما بين التجاعيد وأشواك العنوسة، غريبةٌ عن كلِّ الملامحِ التي تطالعني في الصّباحاتِ الماطرةِ، الخريفُ يجرّدني من دفئي وملابسي... أشعرُ أنَّ أنفاسكَ تهيمُ حولي، أتقلبُ على جمراتٍ من وجعٍ وخوفٍ... إلى متى...؟
تطلُّ عبرَ خيوطِ الشّمسِ... أوّلُ الخطواتِ أغانيكَ على شفاهِ الفجرِ... قرأتك بلهفةٍ وشوقٍ، خانتني ذاكرتي يوم استسلمتُ لسحر عينيكَ ورحت تمسّدُ خصلات شعري الليلي وتدخلُ عالمي... رأيتك تستريح بين ضفاف صدري، تعيش بأشيائي الحميمة، حذرتكَ من لهفتي إليك... أشعلتَ لفافاتِ تبغكَ البلدي فوقَ وجهي.. لم تأبهْ لبحّةِ صوتي.. أنينٌ يشبهُ هسيسَ احتراقِ قشّ القمحِ ومخلفاتِ البيادرِ.
خريفُ يغري امرأةً تجاوزتها السّنواتُ لأن ترتدي أجمل ملابسها.. تسعى للقياكَ، غريبةٌ شخصتْ إليها كلُّ العيونِ، كنتُ عائدةً إليك من حلمٍ نسجتهُ ذاكرتي لأنكَ المستحيلُ الممكن ودروبك مبهمةٌ أمشي إليك.. تتوهُ خطواتي أذكر أنّ بعض القناديل كانت هنا.. أيضاً تنبهني الذّاكرةُ.. لقد سرقوا قناديل الليل... ليعيشَ اللَّصوص بأمانٍ.. صورٌ شتى تتراكضُ خلفَ الطّيفِ راياتٌ سود أكاليلُ من غارٍ وبياضٍ يبدو أني دخلتُ عمرَ التّخريف مبكراً أو أنني أقلقتُ الذّاكرة من جديدٍ بتخيلاتي وأوهامي.. عشقتُ البحرَ... أرمي إليه رسائلي علّها تصلُ إليك أيها الحالم بمدنٍ تشبه بياضَ الفجرِ... وعيني امرأةٍ خارجةٍ من خوابي النّبيذِ المعتّقِ... أذكرُ أنّك قلت لي يوماً إنّ حلماً مربكاً وأنتَ تقفُ خلفَ نافذةِ البيت القديم... كانتِ السّماءُ تجودُ بكلِّ مطرها على الأرض... رأيت امرأةً لها جمالها الخاص تخرج من فنجان القهوة ترتدي ورق الزّيتون مغسولة بعطرِ الهيل تقدّمُ لكَ قهوة الصّباح أسرعت أنتَ لتأخذها إلى صدرِكَ، كان الهواء وبعضُ الفناجين التي تحطمتْ وارتطامُ قدميكَ بخشبِ الطّاولةِ... أذكرُ أنَّ كفيك كانتا مدميتينِ سكبتَ فوقها لتراً من العرقِ ولففتها بشالِ أمّك الحريري... يا له من حلمٍ ركضت خلفه عمراً كاملاً... صقيعٌ قاسٍ يخيّم في سريري ها أنا أخربشُ بعضاً مني على أوراقي أرميها للموج... أشعرُ أنّ العمر يتسربُ من بين أصابعي، فخاراتُ النبيذ ما زالت رفيقتي، لم ألتقيكَ ولم تضمّكَ عيناي ولم تعصر بيديكَ أوجاعي... أشعرُ أني أعرفك منذ أمطرتِ السّماءُ أوّلَ مرّةٍ ومنذ تفجرت ينابيع الدّم في جسدي، ومنذ دوّتْ صرختي في بيتنا القديم ومنذ جرحت يديّ وأنا أركشُ بين شجيرات الزّيتون، ومنذ كتبت اسمي أوّل مرَّةٍ على ورقٍ في مدرسة قريتنا القديمة... كنتُ أراكَ على الصّفحات وبين الورق وتحت ملابسي وعطري كنت أنت أشياء خلوتي المحببة...
أخذت الأوراق من جديدٍ وضَعَتْها في ظرفٍ أنيقٍ سكبتْ عليها قبلاتها ثم ألقتها إلى البحر تقاذفها الموجُ بعيداً... عيناها تراقبانِ بأسى اللون اللازوردي.
"رسالةٌ ثانيةٌ من وجعٍ"
الرّيح تلفُّ أغصان الزّيتونِ، تلك الشّجيراتُ الصغيرةُ تنحني، تقبّلُ الأرض ثم تنتصب من جديدٍ، شغلها المنظر عن نفسها، هنالك تحت رّفِ الصّخور تختبئ الطّيور من العاصفة... حمامتان تتناغمان بأغنيةِ غزلٍ داخل البرج الطّيني وخلف النّافذة: عيناها تراقبان الطّرقات التي تحمله إليها.
توقفتْ لحظةً... "أخافُ العاصفةَ.. والمطر.. أتذكرُ كم مشينا تحتَ المطرِ كنتَ تقولُ: دعينا نغتسلْ بماءِ السّماءِ لنكونَ أكثر طهراً".
إنّها تعشق الخريفَ تتمرد على الشّاطئ وحيدةً تلقي ملابسها وهمومها تغتسل بملوحة الماء البارد... شعرت بلذةٍ جعلت جسدها الطّري يرتعش تشكّلت حبيباتٌ صغيرةٌ فوق جلدها الأسمر، شوقها حررها من البرد، بقدميها العاريتين راحت تلقي رسائلها فوق الموج.. ارتدت ملابسها على عجلٍ، رجلٌ طاعنٌ في السّنِ، يحملُ شبكةَ صيدٍ قديمةً.. وزوادة... قبيلَ الفجر يدبُّ بخطواتِهِ الثقيلة على رمل الشّاطئ.. أعدّ قارباً صغيراً ومهترئاً.
فرش شباكه وراح يدندن بأغنيةٍ عن البحر والصّيد (عندك بحرية يا ريس حلوة وشرقية يا ريس).. شيء ما دفعها لأن تقترب منه.. خذني معكَ يا عم.. حدّق فيها.. تعوَّذ من الشيطان.. من أينَ أتيتِ أنت..؟ إنس أم جن ابتسمتْ له... وسرحَ مع أغنيته (ريحة أراضينا يا ريس عم بتنادينا يا ريس)
كانت الشّمسُ تحاول تمزيق الغيوم لترسل أشعتها على الأرض، أدار وجهه باتجاه اتساع الماء.. "طوتْ فضولها وعادتْ إلى الصخرةِ تجرُّ خيبتها، كادتْ تحققُ حلمها بأن تَمتطيَ القاربَ إلى عرضِ البحرِ... غابَ الصياد خلف الموجِ.. تنهدَتْ، عصفتِ الرّيحُ من جديدٍ بالنّافذةِ.. بعثرتْ أوراقها، رذاذُ المطر جعل وجهها أكثر نضارة من قبل... جلستْ بقربِ الموقدِ... إنهُ وجعُ الانتظار!!
-كلامٌ-
الشّمسُ تلملمُ بقايا ألوانها ينغمسُ شفقها الوردي مع زرقةِ البحرِ يشكّلانِ لوحةً عجيبةً من صنع الطّبيعة، وقفتْ تودّعُ رحيل الشّمس وغياب رسائلها مع الموج. القمرُ الفضيُّ يهرب من خلف غيماتٍ بيضاء يطلُّ بهيئته ناشراً ضياءَهُ على السّفوح والقمم، ينتشي الزّيتونُ، وتخرجُ الطّيورُ بتغاريدها لحناً شجياً، راحتْ تجمعُ بعض زهور أحواض الزّريعةِ... باقةٌ لك.. باقةٌ للموجِ.. باقةٌ للرّجلِ الطّاعن في السّنِ.. باقةٌ لبياضِ المدن المشتهاةِ.. رسمتْ على الأوراقِ أشياءً مبهمةً بلا ألوانٍ تشبه صخب الموج... مطرُ السّماءِ.. بزوغُ الفجرِ.. الرّيحُ تعصفُ بالنّافذة من جديدٍ... يرتعش جسدُها تلتصق بالموقد القديم.
-حالةٌ داخليةٌ-
ليلٌ طويلٌ يضغطُ بهوائه الرّطب على صدرها تركت السّرير.. فتحت النّافذة المطلّة على البحر.. أضواءٌ تبتعد وأضواءٌ تقترب من الشَّاطئ وحلمُها ينطوي خجلاً على وسادةٍ من قلقٍ وذاكرةٍ لا تتوقفُ عن استجرار الأحلامِ.. وخزتها معدتها تذكرت أنها لم تتناول الطّعام طوال اليوم، بعضُ الصّحون ما زالت على مائدة الطّعام زيتونٌ، شنكليشٌ، زعترٌ، أعدتْ إبريقَ الزّوفا شرابها المفضّلِ، تناولت رغيف خبزٍ توقفتِ اللقمة مرارةُ حلقِها جعلتها بحالةِ إقياءٍ، ما الذي يجري ويدورُ حولَها؟ ما هذهِ العاصفة؟ تركتْ طاولةَ الطّعامِ، وقفت على الشّرفةِ ترقبُ الأضواء التي تبتعدُ والأضواء التي تقترب من الشّاطئ، أغلقتِ النّافذة، مدّت ساقيها تحتَ الغطاء... تستقبلُ عاماً جديداً... بأحلامٍ جديدةٍ...