صون العقل
بسم الله الرحمن الرحيم
العقل خلق من خلق الله تعالى، له حكم المخلوق؛ أي إنه فيه النقص والعجز، ويلحقه الآفة من: نسيان، وخطأ في الفهم، والإدراك، ومرض، وخرف، وجنون. ومن ثم فإن أحكامه ليست نهائية ولا صائبة دائمة، بل يصيب ويخطىء، فكم من الأذكياء والحكماء من يفعل الفعل ويقول القول، ثم يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما قلت هذا، وما فعلت هذا.
لذا كان من الخطأ الاعتماد عليه دائما في معرفة ما هو حق وما هو باطل، وجعله مقياسا مطلقا للحق لا يخطئ، كلا، بل لا بد له من شاهد - في أحيان كثيرة - إذا التبست الأمور واختلطت، وكثر الخلاف ووقع التنافر، هذا الشاهد هو: الوحي؛ القرآن والسنة.
فالعلاقة بين الوحي والعقل، كالعلاقة بين العربة والأضواء، فالعربة لا تمتنع من السير حتى في الظلام، لكنها تحتاج إلى أضواء كاشفة لترى الطريق، فتجتنب الاصطدام بالأجسام، والسقوط في الحفر والهاوية.
والجسد من دون عين لا يهتدي إلى الطريق، فالعربة والجسد هو مثال العقل، والعين مثال الوحي، متى ما استقل الإنسان بعقله، وقال: عقلي، عقلي، لا أومن إلا بعقلي وبما عليه يملي. كان مثله كمثل الذي استغنى بالعربة عن الأضواء، وبجسده عن عينه!.
ومتى كان الجسد وحده يغني في معرفة الدروب شيئا؟، كما أن العين لا تحمل الإنسان، فباجتماعهما يتم الحال ويسير المرء آمنا، وتعلمون قصة الأعمى الذي حمل المقعد على ظهره، فارتقى به لقطف الثمرة من الشجرة، فالأعمى لديه الحامل ليس له الهادي، والمقعد لديه الهادي، وليس له الحامل، فلما اجتمعا تكاملا، فجنيا من وراء ذلك الثمرة.
يقول الله تعالى عن قوم من الكافرين كانوا عالمين غير جاهلين، لكنهم مع علمهم ضلوا وزاغوا عن اتباع الرسل: ﴿فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ ٨٣ فَلَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَا قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥ وَكَفَرۡنَا بِمَا كُنَّا بِهِۦ مُشۡرِكِينَ ٨٤ فَلَمۡ يَكُ يَنفَعُهُمۡ إِيمَٰنُهُمۡ لَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَاۖ سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدۡ خَلَتۡ فِي عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ﴾.
فأين عقولهم الذكية لم تهدهم إلى ما هو أوضح البيان، وأحسنه، وأكمله، حتى شكوا فيه، وضلوا عنه وهو شمس في نهار، وقمر في ليل، ونجوم في ظلمة: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُم بُرۡهَٰنٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ نُورٗا مُّبِينٗا﴾.
وهل ثمة مخلوق أذكى من إبليس؛ الذي ملأ الأرض مكرا وحيلة، وأضل أكثر الخلق، فأي شيء نفع نفسه به، سوى الخلود في جنهم أبدا، ومعه أحبار اليهود، وقتلة الأنبياء، وما في كل قرية من أكابر مجرميها، الذين مكروا فيها، وما مكروا إلا بأنفسهم وهم لا يشعرون؟.
فعقل ضل عن سبيل الله فكفر به وصد عنه، وعقل دون ذلك لم يكفر به، لكنه اغتر حتى ورث بعض إرث الضالين، فكان منه جنوح وانحراف تمثل في تأويل الدين وتفسيره بغير ما نزل، وهم الذين قدموا العقل على الوحي، فكان منهم من سموا بأهل العقل قديما وحديثا، وهم الذين كلما تعارض لديهم آية أو حديث مع ما زعموا أنه عقل، قدموا العقل وأخروا القرآن والسنة، مثل الذي أنكر الطير الأبابيل، التي تحمل حجارة من سجيل، فزعم أنها جراثيم؛ لأن عقله يقول: لا يمكن للطير أن تفعل ذلك. والآخر الذي رد حديث: (إذا سقط الذباب في إناء أحدكم فليغمسه، فإن إحدى جناحيه داء، وفي الآخر دواء). فزعم أن عقله يقول له: كيف يغمسه، وهو المليء بالجراثيم؟.
ومثلهم الذين ردوا ورفضوا الحدود الشرعية؛ لأنها في عقولهم بشعة وشنيعة القصاص من القاتل، وقطع يد السارق، وجلد الزاني وشارب الخمر، وقتل المرتد!. ألا ما أشبه حالهم بحال كفار قريش حين أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسرائه إلى بيت المقدس، وعروجه إلى السماء، فهزءوا وكذبوا، ورأوا أنها القاتلة؛ فأسرعوا إلى أبي بكر الصديق واشين فرحين بما ظنوا أنها القاضية، فقالوا له: "هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة. فقال لهم: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك! فوا لله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه".
فمنذئذ سمي الصديق، وكل مؤمن فلا بد أن يكون صديقا لما أخبر به الرسول وجاء به، ولو تأخر عقله عن الفهم والاستيعاب، فإن أبا بكر صدق بأمر كذب به سائر قريش، وتصديقه اليوم بدهي عند سائر الناس مسلمهم وكافرهم، فمن الذي ينكر اليوم إمكان السير إلى بيت المقدس ثم العود في الليل نفسه، مع وجود وسائل النقل السريعة؟.
فمن خلق الإنسان الذي صنع هذه الطائرات النفاثة، وخلق الصوت والضوء بسرعته الباهرة، لا يعجزه أن يضع في بعض خلقه قدرة وسرعة تفوق الصوت والضوء، فصح بذلك أن الوحي لا يأتي إلا بالصدق، وأن الآفة في العقل، هو الذي يكون كالطفل الوليد، الذي لا يزال في حاجة إلى التعلم واكتساب الخبرة، فكلما كبر أدرك ما لم يكن يدركه من قبل، ولا يزال العقل في طفولة كلما جهل شيئا، تزول طفولته كلما تعلم وأدرك، ولا يبلغ يوما أن يعلم كل شيء: ﴿وَيَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا﴾.
كلكم يعرف الجوال.. لو قام أحدهم في المدينة قبل مائة سنة، فزعم أنه محدث صاحبه في مكة، يسمع صوته، ويرى صورته في قطعة حديد في يده، أكان ثمة أحد مصدقه؟. فاليوم لو قام فكذب ذلك كله، أكان أحد مصدقا له؟. فأين الخلل إذن في أمر كذبه الناس يوما، ورجموا قائله، وهم اليوم مصدقون به، ينعتون المكذب به بالجنون وغيبة العقل؟.
الخلل في العقل، هذا الذي تعبده الناس، فأعظموه حتى جعلوه إلها من دون الله يطاع فلا يعصى، فلم يضعوه في منزلته اللائقة الملائمة له، هو الذي لم يملك من العلم والمقدمات، ما يؤهله للتصديق بهذا النوع من الاتصال فكذب، فلما ملك وعرف العلم صدق. فإياك أن تثق به ثقة عمياء مطلقة، بل امش وراءه واسمع له ما لم يخالف شرعا وتجربة وحكمة مستقرة.
قال الله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا﴾.
إن العقل مثل البدن، ما من أحد يغتر أنه ببدنه قادر على كل شيء، حتى يدرك عجزه عن تحريك جحر دع عنك جبلا، أو هزيمة أسد دع عنك فيلا، وإن من يغتر بعقله حتى يعلو ثم يعلو، يعرض له سقوط مريع، يذهب به عقله، فيتصرف تصرف المجانين، أرأيتم الملاحدة؟.
بأي شيء ألحدوا، وطائفة منهم معدودين من علماء الطبيعة والفيزياء والطب، فلا ينقصهم الذكاء ولا المعرفة، ولا الفهم والإدراك؟.
من تتبعهم ظن أن إلحادهم أتى عن أمر عظيم ومعرفة خطيرة، فإذا ما وقف على ذلك، لم ير لهم إلا دليلا ساذجا سخيفا لايؤمن به أنصاف العقل ومن كان له حظ من أدنى العقل، فأكثرهم ملحد ودليله على إلحاده: أن الله تعالى لم يره أحد، وهو غير محسوس. ومتى كانت الرؤية والإحساس مصدر الإيمان والتصديق؟.
ها نحن نؤمن بكثير من الأخبار تأتينا، ولو لم نرها أو نحس بها، نؤمن بها لإخبار الثقات الذين لا يكذبون بها، ولأن الآيات والشواهد والأدلة قامت على صدقها، بل نحن في حياتنا ومعايشنا نبني على التصديق بما لم نحس به أو نراه، فهل كل واحد منا رأى طعامه كيف يزرع أو يربى، ثم يصنع ويهيأ؟، كلا، مع ذلك فنحن نأكل ثقة بأن إعداده كان للنفع لا للضر.
إن هذا الملحد نفسه يركب الطائرة، ثم تطير بها إلى وجهته التي يريدها، وهو لا يعرف شيئا عن الطريق، ولو طارت به عكس الاتجاه لما عرف حتى ينزل الأرض، فلم صدق الطيار وآمن به ووثق أنه لن يخطئ به؛ آمن بشيء هو غيب عنه ، فهل أعجزه أن يؤمن بهذا النبي أنه من عند الله، وقد أخبر عن الله تعالى وأمره، وقد قامت الدلائل على صدقه، من: فضائل، وموافقة للأنبياء السابقين، ونصرة الله له، وبشارات الأنبياء به، وكمال شريعته، ومعجزاته؟.
قد استدل بما سمع وعرف، فوثق بالطيار أنه يهديه في الطريق، فهل الأدلة على صدق الطيار ومعرفته بالطريق أعظم، أم الأدلة على وجود الله تعالى، وصدق نبوة نبيه صلى الله عليه وسلم؟
إن الإنسان ليشعر من نفسه كللا ومللا حيث يكثر التفكير، ويرى أنه بحاجة للراحة، كيلا يزل في وصفه وحكمه، وقد يصاب بالصداع فيمتنع عليه إعمال العقل السليم، حتى يذهب الصداع، وقد يصاب بالنسيان، فيجهد جهده للتذكر فيعجز، أفليس في ذلك عبرة؟.
إن العلم علمان: علم في الخلق موجود، هو العلم بما أخبر الله به، وبما أمر به، والعلم الذي عن طريق التجربة، والعلوم الفطرية البدهية. وعلم مفقود لا سبيل لمعرفته هو: الغيب الذي لم يخبر به، وحقيقة أسماء الله وصفاته وأمور الآخرة، وسر القدر. فسبيله التسليم له والإذعان.