قبل أن يضيع العمر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نعم الله عز وجل علينا كثيرة وفيرة غزيرة لا تعد ولا تحصى: {..وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
ومن أجلِّ وأعظم تلك النعم نعمة الحياة، التي لولاها ما كنا على وجه الأرض، والعمر هو رصيد الإنسان في هذه الحياة، والذي إذا أحسن استغلاله ووفق في إنفاقه فيما فيه النفع والخير أنجح وأفلح والموفق من وفقه الله، والسعيد من وافق شرع الله .
ولسوف يسأل الله العبد يوم القيامة فيما يسأله عن العمر إجمالاً وعن فترة الشباب خصوصًا، تلك التي يضيعها الكثيرون في غفلاتهم وشهواتهم وهفواتهم إلا من رحم الله وعصم، روى الترمذيُّ من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس، عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟» (صحيح الترمذي، وصحيح الترغيب والترهيب ومشكاة المصابيح، وصحيح الجامع للألباني رحمهم الله جميعاً).
ومن أجل هذا الموقف العظيم فإنه ينبغي على كل عاقل أن يتدبر في حال نفسه، ويتفقد أحوال قلبه وتغيرات نفسه وتقلبات حياته وأن يبادر هو بمحاسبة نفسه على ما تفعل وأن يعجل ما استطاع بالمحاسبة والمعاتبة والتصحيح والضبط، قبل أن يأتي يوم لا يبقى فيه متسع لعتاب ولا استعتاب.
العمر يجري بسرعة البرق، الأيام تتابع وتتوالى على العبد كتتابع السيل المنهمر والسنون تنجرف خلفها كمثل كرة الصوف في يد الغازلة، أمسكت طرفها جعلته في مغزلها وأرسلت الكرة كلها على الأرض تدور حول نفسها، وكلما زادت الدورات عددًا زاد الحبل انسيابًا وانفلاتًا، اللهم إلا إذا العبد أدرك الحقيقة وكف عن متابعة الهوى، وهبنا الله تلك الحياة المؤقتة لحين قدوم الأجل، وهو آت لا ريب فيه ولا نزوح عنه ولا فرار منه فاللهم سلم سلم.
يجب على كل إنسان أن يتأمل حاله ويحسن استغلال أوقاته، ويتفكر في هذه الساعات التي يقضيها هل يقضيها في عمل يرضى به الله عز وجل أم أن عمله هذا قد لا يقبله الله رب العالمين؟ في كل يوم يمر يسمع المرء هاتفاً ينادي: "توفي اليوم إلى رحمة الله تعالى -إن شاء الله- فلان بن فلان، أو توفيت فلانة بنت فلان! فهل يا ترى أيها القلب انتبهت وأدركت أنك مهما طال بك العمر فإنك لا محالة ميِّت؟
إن الله تعالى يخبر أحب الخلق إليه وأكرمهم عليه وأتقاهم له وأقربهم منه وأعلاهم منزلة وأشرفهم منصبًا رسول الله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم فيقول له: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ . ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 30، 31].
لكن نظرًا لطول الأمل الذي قد يصيب الإنسان مع توافر أسباب السعادة الظاهرة من قوة حواس وسلامة صحة، وعافية بدن وربما كثرة مال وعيال وأهل وعشيرة، فربما توهم المرء أنه خالد مخلد في الدنيا وأنه باقٍ أبدًا غير مفارق ماله وعياله، ولا مدركه الوهن والمرض والعجز والكلل، حتى إذا فاجأته الأسقام وهجمت الأمراض، وقلت الأموال وتفرق الأبناء، وتخلت العشائر أفاق حينها فلم يجد لنفسه قوة ولا مالاً ولا سنداً، اللهم إلا بعض الأتقياء من القوم الصالحين يعظونه ويقوون عزيمته على فعل الخيرات فيما تبقى له من مجهول الساعات، لعل الله يعفو عن سيئاته ويصفح عن زلاته ويستر عيوبه وسوءاته!
ماذا يقول المرء لنفسه إذا استيقظ يومًا من نومه على أنفاسه وقد تسارعت وخفقات قلبه وقد علت وكأنها طبول الحرب تدق منذرة بعدو قد أوشك على الهجوم؟ ماذا يقول المرء إذا استشعر أن عمره الذي مضى قد راح دونما فائدة ولا منفعة، لا دينية تقربه من ربه ولا دنيوية تحفظ عليه شيئاً من ماء وجهه، وتنفع زوجه وأبناءه من بعده إذا أصابه المرض وأرهقه العوز؟
ما هو إحساس المرء إذا بلغه نبأ وفاة حبيب مقرب، أو صاحب مرافق أو زميل مقارن، أو شقيق تربى معه في حجر والد واحد ورضع معه من لبن أم واحدة، وجمعهما بيت واحد بل وغطاء واحد؟ أليس هذا أيها الفتى مصداقًا لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
أم أن الفتى يظن واهمًا أنه مخلد أبدًا؟!
ولقد قال الله عز وجل لنبيه وحبيبه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ . كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 34، 35]. كم كان المرء يستعجل سنوات العمر لتمر سراعًا حتى يكبر ويصير رجلاً، أو تصير البنت الصغيرة فتاة يافعة وامرأة ناضجة.
الآن وقد بلغ الفتى الصغير مبلغ الرجال، وعقل ما عقلوه وحمل المسؤولية التي طالما حلم بها واستشرفها لسنوات طويلة ممتدة، إذا به يتمنى أن لو تراجعت عقارب الساعة إلى الخلف كثيرًا كثيراً، لترده إلى حيث كان يقف بين الأطفال من مثل عمره يلعب ويلهو، ويتقافز هنا وهناك، ويجري هنالك ويرجع بين الفينة والفينة إلى أبيه أو أمه، وربما إلى أخيه الأكبر ليأخذ شيئا من المال، بضع قروش ليشتري الحلوى أو بعض المطعومات المغلفة فيتقاسمها مع أبناء حيه، وربما استأثر بها لنفسه منتحيًا ناحية من البيت حتى لا يراه أحد وهو يلتهمها ببطء رويداً رويداً، حتى يستمتع بمذاقها أطول فترة ممكنة لأنها لو انتهت سريعاً فعليه أن ينتظر إلى اليوم التالي الذي يبدو له بعيداً جداً حتى يأخذ مصروفه مجدداً لهذا اليوم ليشتري الحلوى أو غيرها مما يريد.
أراه الآن وقد أنهى دراسته واستلم عمله بعد فترة من الانتظار أمضاها في الشارع، أو البيت حتى من الله عز وجل عليه بالوظيفة أو العمل وحصل منه أجراً ـ بضع مئات من الجنيهات- نعمة والحمد لله، أراه وقد تزوج وأفاء الله عليه بالسكن والاستقرار وهدوء النفس ثم أخلف الله عليه الولد فصار أباً بعد أن كان ابناً، أراه وقد أصبح مسؤولاً عن عمل وبيت وزوج وأبناء، ومسؤوليات اجتماعية وعائلية يتذكر حين كان يلعب ويلهو ولا شيء يشغل باله ولا يعكر صفو حياته، ويستدر دمعاته باكياً إلا إذا تأخر المصروف أو منع من الخروج أو اللعب.
أراه وهو يمد يده في جيبه ليعطي لولده المال ليشتري شيئاً من الحلوى أو علبة الزبادي أو ما شاكل ذلك، أراه استرجع أيام الطفولة إذا كان يمد يده إلى أبيه أو أمه أو... ليأخذ لا ليعطي، كيف كان هذا الطفل الصغير مستشرفًا الكبر متعجلاً السنوات يكاد لو أمكنه ذلك أن يأمر الشمس والقمر والليل والنهار أن يتعاقبوا حتى يصير كبيراً..! أما وقد صار كبيراً قد جرى عليه القلم فليأخذ قول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38].
الآن وقد صار مسؤولاً عن عمل الله سائله عنه يوم القيامة، ماذا عمل فيه؟ ومسؤولاً عن زوجة الله سائله يوم القيامة: ماذا أفادها، وبأي شيء أمرها، وكيف عاملها؟ ومسؤولاً عن أبناء الله سائله عنهم يوم القيامة: كيف رباهم؟ وكيف علمهم؟ وكيف أدبهم؟ وماذا قدم لهم ليحفظهم في دينهم ودنياهم؟ أم لا يذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» (رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وصححه الشيخ أحمد شاكر).